رحلة  مسرح "لبن" من سطوح بيروت إلى أعماق مشاكلها الاجتماعية 

لبانة غزلان

في الأشهر المبكرة من عام 2022 بثت قناة الجزيرة الوثائقية فيلماً بعنوان "هون كونغ  بأعين متمردي السطوح"،  وقد يخطر في بالك للحظة أنهم مجموعة من الخارجين عن القانون، أو أناس يحتلون الأسطح، يمارس بعضهم أعمال الشغب والسرقة ربما، ويكشفون  الوجه الآخر لهونكونغ، كبرى مدن الصناعة والتجارة الشرق آسيوية.

 إلا أن  متمردي السطوح هؤلاء لم يكونوا سوى مجموعة من الشابات والشباب الصيني، من فئة الشباب المتعلم والمهذب، يتسللون إلى سطوح ناطحات السحاب في مدينتهم هون كونغ، لالتقاط صور مدهشة لأنفسهم ولمدينتهم من هذا العلو الشاهق، نرافق هؤلاء الشباب في رحلة تمردهم الخطرة في بلد النظام الشمولي، حيث ديكتاتورية الحزب الواحد تحارب تمايز الأفراد وتنوعهم، وتجبر شباباً مملوئين بالحياة والطاقة للانصياع إلى عالم روتيني، كل شيء فيه معد مسبقاً، ليعلنوا تمردهم على واقعهم بأكثر الوسائل سلمية وإدهاشاً. 

لم أكن قد اعتدت بيروت بعد، وقد ساقتني الأقدار للاستقرار فيها، لأجد نفسي بالصدفة أمام شكل آخر جميل للتمرد والثورة على الواقع، من سطوح ناطحات السحاب في هون كونغ إلى سطوح الوصل في أعلى مبنى الزيكو هاوس، بما لهذا المبنى من رمزية ثقافية وتاريخية في حياة مدينة جامحة كبيروت.  حيث يقبع استديو ومسرح "لبن" هناك في أعلى مبنى الزيكو هاوس – شارع سبيرز- منطقة الصنائع.

الحكاية وصلت للسطح

احتضن عام 2007 انطلاقة "لبن" كمبادرة شبابية لشباب مسرحي يهوى مسرح الارتجال، وبدأت أعماله بشكل رسمي منذ عام 2009 وهي مستمرة إلى اليوم، كشكل من أشكال الفن البديل الذي يطرح قضايا جريئة، ويتعاطى مع الأمور غير المألوفة والبعيدة عن السائد. هذا الفن  المعروف  بالـ Under Ground Arts بقي لسنوات منفلتاً من الرقابة ونداً لها، يمارس نشاطه متخفياً تحت الأرض، في الأقبية، وفي أماكن مغلقة بعيدة عن الأنظار الرافضة له.  إلا أن خيار لبن كان بالخروج من الأقبية إلى السطح، إلى أعلى نقطة يمكنهم وصولها، ليقدموا فنهم البديل بوضوح كالشمس، وليصرخوا بأعلى صوتهم بأنهم موجودون، ولا يريدون الاختباء.

إيماناً منهم/نّ بأن المسرح والثورة فعلان متشابهان بطبيعة الحال، فهما رفع الصوت لقول الأشياء بصراحتها على العالي، للنهوض بالمجتمعات إلى المكانة التي تستحقها، وتحميل المسؤولين عن عذابات الشعوب مسؤوليتهم، وهما في الوقت نفسه حاضنان وجامعان لمختلف الشرائح والمكونات.

وعلى مدى 13 عاماً منذ تأسيسه عمل مسرح "لبن" كعمل "الروبة" التي تحول الحليب إلى اللبن المعروف محلياً وعربياً، ومن هنا جاءت تسميته، حيث يطمح أعضاء الفرقة  أن يكون وجودهم في مدينة كبيروت كالـ "روبة"  لهذه المدينة الجميلة والقاسية، لعلها تصبح أكثر قدرة على احتواء الآخر وتقبل الاختلاف، فتعيش بكل مكوناتها بسلام وتتخلص من رواسب الكراهية والحرب الأهلية.

تقول فرح ورداني، مديرة لبن: "نحن لسنا في معركة ضد الفقراء الآخرين، ولا المهمشين، أو المظلومين وضحايا الحروب، لأننا أنفسنا ضحايا الحرب والجهل والفقر أيضاً، وضحايا الأنظمة الجشعة وميليشيات السلاح والمال، سواء في سوريا أو لبنان أو الوطن العربي جميعنا نعاني، ولو بنسب  متفاوتة، من بطش السلطات الحاكمة". وتضيف: "هدفنا تصير بيروت اليوم بتشبهنا، متل ما مسرح لبن بحب يشبه بيروت الثقافة والتنوع".

موقف "لبن" من العنصرية

ينظر القائمون على مسرح "لبن" إلى العنصرية على أساس أنها فعل من الأفعال الكثيرة التي تقوم بها السلطات، لتشغل الناس من خلالها عن جوهر معاناتهم، المتمثلة بكل بساطة في ممارسات هذه السلطات وفسادها. حيث تقول فرح ورداني: "يعني أنا اليوم كلبنانية عم يجربوا يقنعوني أن مشكلتي مع الخبز هي أن السوري يأكل خبزاً، بينما في الحقيقة مشكلتنا مع الخبز هي كارتيلات الطحين التي تسرق الطحين، وتكسب من وراء تهريبه  لمن تشاء أرباحاً طائلة على حساب قوت الشعب"، ومثل هذه الأفعال تعزز الكراهية في المجتمع وتشجع الجريمة.

كما يرى "لبن" أن النهوض بالمجتمع لا يكون دون احتضان كافة مكوناته، حيث لا يوجد بلد في العالم مكون من مجتمع صافٍ بعرق واحد ولون واحد وجنسية واحدة، وإن وجد هكذا مجتمع فهذا يدل على مشكلة فعلية يعاني منها هذا المجتمع، وعند النظر إلى كمية الحروب وفقدان العدالة حول العالم نجد أنه من الطبيعي، بل من المنطقي أن يتنقل البشر من مكان إلى آخر بحثاً عن الأمان والحياة الكريمة، وعلى الأماكن الجديدة احتضان هؤلاء الأشخاص، والنظر لهم على أنهم طاقات بشرية واقتصادية واجتماعية يمكن دمجها والاستفادة منها.

كحال المكون السوري في لبنان، فبحسب فرح: إن انتهت الحرب السورية، وعادت الحياة فيها إلى طبيعتها فرضاً، وهو أمر بعيد المنال حالياً، هنالك الكثير من الأشخاص الذين لن يعودوا، وسيقررون البقاء في لبنان، بعد أن بنوا حياة كاملة خلال العشر سنوات الماضية، وكونوا صداقات وعائلات ضمن مجتمعهم الجديد، وهذا حقهم، إذ يحق للبشر تقرير مصيرهم وأين يودون العيش دون ضغوط، لذلك المجتمع اللبناني مضطر أن يوجد حلول ويتقبل فكرة وجود السوريين ويحتضنهم ليخطو نحو التعايش السلمي، فالعنصرية لن تولّد سوى  مزيد من الأزمات.

وانطلاقاً من مبادئه يستقبل لبن أعضاءً جدد على أساس تلاقيهم مع قيم "لبن"، قبل النظر في مهاراتهم الأدائية، حيث يمكن تعلم تقنيات المسرح وامتلاكها عبر التدريب الذي يقدمه "لبن" لفريقه، إلا أن المعيار الأول للانضمام للفرقة هو  تشابه الأفراد مع هوية "لبن"، واستعدادهم الداخلي للعمل ضمن المبادئ والأفكار والقيم التي يتبناها الفريق. لذلك نجد تنوعاً كبيراً في أعضاء الفرقة من مختلف الجنسيات والثقافات، يعملون يداً واحدة في مواجهة عنف السلطات وسلاحهم المسرح.

أنشطة "لبن"

يقدم "لبن" مهرجاناً سنوياً يسمى "سطوح المدينة"، يقام خلال شهري آب وأيلول من كل سنة، يستضيف هذا المهرجان فنانين/ات من مختلف أنواع الفنون (مسرح- رقص- كورال)، سواء كانوا طلاباً أو محترفين أو هواة، ليقدموا خلاله عروضاً خاصة بهم ويعرضوا فنونهم بشكل حر على مسرح لبن، ويعود ريع هذا المهرجان بالكامل لصالح الفنانين/ات المشاركين/ات.

بالإضافة إلى أشكال متعددة من المسرح، حيث يقدم "لبن" عروضاً ارتجالية، بناء على اختيار الجمهور، إذ تدخل قاعة العرض، ويطلب منك كمشاهد اختيار عنوان له، وبعد التصويت لعنوان ما، يرتجل الممثلون عرضاً كاملاً لمدة ساعة ونصف عن أحد تلك العناوين أو جميعها، بشكل مدهش وغير متفق عليه مسبقاً، ليخرج عفوياً ومتقناً بآن واحد.

مسرح إعادة التمثيل أو ما يعرف بالـ  Play Back theater، حيث يقدم الجمهور قصصاً عاشوها من حياتهم الشخصية، ويعاد تمثيلها أمامهم على المسرح كما رووها ولكن بشكل فني جمالي. بالإضافة إلى مسرح المنتدى الذي يقدم في نهايته مشكلة اجتماعية أو سياسية، ويدعو الجمهور للتفكير فيها واقتراح حلول لها. فضلاً عن أنشطة رفع التوعية والمناصرة باستخدام تقنيات المسرح يقوم بها الفريق، أثناء عملهم مع  المهمشين من مساجين أو مدمني مخدرات، أو لاجئين. ليشكل استديو ومسرح "لبن" مساحة آمنة وبديلة، تجمع الأشخاص وترفع سقف الحوار، وتحارب جميع أشكال التمييز والعنصرية والطائفية والتنمر.

خصوصية مسرح إعادة التمثيل كأداة للدمج 

تخبرنا فرح ورداني مديرة "لبن" أن مسرح إعادة التمثيل هو فن وحركة ثقافية لتقدير القصص الشخصية، تنطوي تحته مساحة علاجية آمنة، لمجتمع يصارع على المستوى النفسي والخدمات النفسية، فضلاً عن كونه مسرح مجتمعي يساهم بخلق وتطوير المجتمعات، ونظراً لافتقار لبنان لمفهوم المساحات العامة، يشكل مسرح إعادة التمثيل فرصة ليلتقي خلالها الناس ويرووا قصصهم، ويتحدثوا عن همومهم ومشاكلهم بحرية تامة، ليعاد تمثيلها، بجو بعيد كل البعد عن مفهوم الجلسات الحوارية والـ فوكس جروب، المتبعة في عمل المنظمات المدنية، حيث عناوين الجلسات وموضوعاتها محددة مسبقاً، وهناك أجندات عليك الالتزام بها خلال الجلسات.

يتميز هذا النوع من المسرح بمرونته، وقدرته على تغطية احتياجات كثيرة طرحها المجتمع، وخاصة في قدرته على الوصول إلى الفئات المهمشة التي نسيها المجتمع، وباتت بعيدة عن كل ما يقرب من الثقافة والفن والجمال، ليقدم لها المسرح بشكل مجاني ويحاكي مشاكلها بلسانها، مبتعداً عن الفلسفة والفوقية في التعاطي مع هذه القضايا، فيتمكن أفرادها من تجربة الجماليات المحيطة بهم وتذوق الفن، كما يستحقون كغيرهم من البشر.

تساهم هذه اللقاءات ومشاركة التجارب والقصص الشخصية، بشكل أساسي في إدراك أن المعاناة التي يعيش تحت سطوتها كل من في لبنان اليوم، ليست مشكلة شخصية يعيشها كل فرد على حِدة، بل هي مشكلة اجتماعية سياسية، ترخي ثقلها على مكونات المجتمع، تفتعلها السلطات بشكل أساسي، وتعمل على إيهام الأفراد بأنها مشكلتهم وحدهم، وحين نكون غارقين في مشاكلنا الفردية يصعب علينا إدراك أنها مشتركة مع الآخرين، وبأننا لسنا وحيدين فيها، لذلك يمنحنا مسرح إعادة التمثيل فرصة للوقوف على مسافة من مشاكلنا الشخصية، ونشاهدها على المسرح خارجة من ذواتنا وتؤدى من قبل آخرين، فنأخذ ور المراقب الخارجي، ننظر بحيادية إلى ما يتم عرضه، وتقاطعه مع قصص الجمهور من حولنا، لنصل إلى نتيجة أن ما يحدث معنا مؤسس وممنهج أكثر مما كنا نتخيل، ونخفف عن أنفسنا عذابات جلد الذات، في مجتمع يعيش أزمات حادة، لا يمكن للأفراد وحدهم حلها.

*تصميم: آية خربوطلي