الحرب في السودان والخسائر سورية.. محصول المحلب بلا مشتري!

يوسف غريبي

على الأرض التلية لقرية كفرلاتة، في منطقة جبل الزاوية الواقع جنوبي إدلب، يقف رعد عبوس، الرجل الستيني، متأملاً أشجاره التي كانت قبل أسابيع قليلة مصدراً للبهجة، واعدةً حسب قوله بربح وفير يمكّنه من أداء فريضة الحج، إلا أن آماله تلك تلاشت بعد تعرضه لخسارة غير متوقعة، نتيجة الحرب الدائرة في السودان، على بعد آلاف .الكيلومترات من حقله

وتعتبر السودان سوقاً رئيسة يعتمد عليها مزارعو جبل الزاوية لتصدير محصول المحلب إليها، كل عام، إلا أن الاشتباكات الأخيرة فيها بين قوات الجيش السوداني وقوات الدعم السريع والتي انعكست على الواقع الاقتصادي في تلك البلاد، أوقفت عمليات الاستيراد، ومن بينها استيراد محصول المحلب.

استخدامات المحلب 

قد لا يخطر على بال بعض السوريين حينما يشتمّون رائحة بهار المحلب سوى حلوى المعمول، وأقراص كعك العيد الذي يقدمه الأهالي للضيوف مع كأس من الشاي أو الحليب، بينما يوجد لهذه الثمرة استعمالات مختلفة تماماً في أفريقيا، حيث تستخدم لتجهيز العرائس، كما تستخدم في الأدوية والعطور ومواد التجميل.

إضافة إلى ذلك يعد المحلب مصدر دخل أساسي تعتمد عليه عائلات عديدة في ريف إدلب الجنوبي، اختارت تحد ظروف الحرب السورية ومخاطرها للاستمرار بالزراعة على خط التماس، لكنها لم تسلم من الاشتباكات المفاجئة في السودان والتي قطعت خطوط التصدير الخارجي وحولت الأرباح الموعودة إلى خسارة مؤلمة.

"أهم من الذهب"

يكاد رعد لا يصدق ما جرى وهو يتحدث عن أرباحه المتوقعة، التي كانت ستصل إلى خمسة آلاف دولار، والتي لم يجنِ منها سوى 400 دولار، بعد توقف خط التصدير الرئيس إلى السودان، والتي كانت تستقبل 90% من الإنتاج السوري للمحلب، حسب تقدير التجار، "كانت أسعاره تفوق الذهب، كانت شجرة المحلب أهم من الذهب"، قال المزارع الذي يملك خبرة تصل إلى اثني عشر عاماً في زراعة هذه الشجرة.

 ويشير رعد إلى أن سعر الرطل (ثلاث كيلو غرامات وربع) وصل إلى 42 دولاراً في الأعوام السابقة، وهو اليوم لا يتعدى ثمانية دولارات فقط بسبب توقف الطلب، نتيجة اندلاع الاشتباكات في السودان منذ 15 نيسان الماضي.

صعوبات تواجه المزارعين

أدى وجود قوات النظام السوري على تخوم جبل الزاوية، والذي بات خط تماس، إلى تخوف المزارعين أثناء جني محاصيلهم الزراعية، ومن بينه المحلب، نتيجة الاستهدافات المتكررة بقذائف المدفعية لمنازل وحقول المدنيين.

يقول المزارع الشاب محمد فضل الذي يمتلك حقلاً من المحلب في قرية إحسم، حيث سقطت قذيفتان مدفعيتان، قبل عدة أيام، مصدرهما مواقع تمركز قوات النظام القريبة: "اضطررنا للتوقف عن العمل، لأننا خشينا من استهداف جديد"، مشيراً إلى أن العديد من أصحاب الأراضي الزراعية في المنطقة يقيمون في المخيمات، شمالي إدلب، ويعودون فقط في موسم جني المحاصيل الزراعية، رغم الخطر الكبير على حياتهم.

تتطلب شتلة المحلب العناية ما بين أربع إلى خمس سنوات قبل أن يبدأ إنتاجها، وتزرع خلال الشتاء، وتعطي ثمارها بداية فصل الصيف، ما بين شهري أيار وحزيران، ويكون موسمها عادة "موسم خير" على المزارعين، حسب وصف محمد، أحد مزارعي جبل الزاوية.

 بعد أشهر العمل الطويلة التي يضطرون خلالها للاستدانة لإتمام الزراعة بانتظار مرابح الحصاد، تعتمد "أكثر من 75% من معيشة المزارعين على المواسم"، قال محمد، مقدراً اعتماد 90% من أهالي جبل الزاوية على الزراعة، والتي تضم مواسم المحلب والكرز والزيتون والتين، مضيفا: "لكن كل هذه المواسم تضررت خلال الأعوام الأربعة الماضية".

التاجر والمزارع.. خاسران!

لا تتوقف خسائر هذا العام من تجارة المحلب على المزارعين فقط، بل إن بعض التجار تعرضوا لخسائر فادحة أيضاً، نتيجة تخزين أطنان من محصول المحلب، قبل توقف السوق السودانية عن استيراد ذلك المحصول.

وقدر التاجر يونس الحسن نسبة خسارة المحلب بـ65% هذا العام، "لأن قالب المحلب كان بسعر 15 أو 16 دولاراً أما الآن فيتراوح ما بين 7 و 7،5 دولار للقالب الجاهز للتصدير"، حسبما قال، واصفاً الحال: "الناس اعتمادها على الله ثم على المحلب في هذه المنطقة".

لم يغطِ مبيع موسم المحلب الأخضر تكلفة الزراعة واليد العاملة، حسب تقدير التاجر المحلي المقيم في قرية كفرحايا، الذي أشار أيضاً إلى خسارة التجار الذين خزنوا المحلب الجاف من محصول العام الفائت ليجدوا أنفسهم بلا سبيل لتصديره وبيعه.

قبل أسابيع قليلة كان الطلب على المحلب "قوياً"، قال التاجر أحمد عزيزي، وهو يقف بالقرب من آلة متوقفة لفصل المحلب الجاف عن قشوره، في قرية كفرلاتة، مشيراً إلى تمهل التجار بالبيع، أملاً منهم بارتفاع الأسعار قبل أن تفاجئهم الاشتباكات، والتي أدت لتحويل شحنات كانت في طريقها إلى السودان نحو أسواق البلاد المجاورة.

استهلاك السوق المحلي من محصول المحلب لا يتعدى 5% من إجمالي الإنتاج، حسب تقديرات التجار، وقد توقفت اليوم عمليات التصدير بشكل كبير، وعلى الرغم من أن المحصول قابل للتخزين، دون تعرضه للرطوبة وأشعة الشمس، حتى ثلاث سنوات، إلا أن الخسارة وقعت بالنسبة لمن احتفظ بأطنان سابقة أصبحت تكلفتها تزيد عن مرابحها.

تقلبات في الأسعار

تبدأ رحلة المحلب بعد قطافه وتجفيفه وتنقيته ووضعه في قوالب خاصة، ثم نقلها إلى تركيا ومنها إلى السودان، أو إلى السعودية ثم السودان، حسبما أوضح أحمد، وهو أحد المصدّرين، مشيراً إلى أن الرحلة تستغرق نحو ثلاثة أشهر حتى تصل شحناته إلى الخرطوم، حيث توزع ضمن البلاد وخارجها نحو الدول الأفريقية المجاورة.

تقلب سعر المحلب ليس جديداً حسبما يسترجع أحمد، البالغ من العمر 48 عاماً، والذي عمل في التصدير الخارجي منذ التسعينيات، إذ بلغ أدنى مستوياته عام 2013 حين وصل إلى ثمانية دولارات للقالب، بعد أن كان بـ40 دولاراً قبلها، كما أن موجات النزوح التي رافقت الحملة العسكرية الأخيرة للنظام السوري وحلفائه على شمالي غربي سوريا نهاية عام 2019، أدت لتعطل الإنتاج أيضاً قبل استقراره على سعر يتراوح ما بين عشرة ونصف إلى 11 دولاراً للقالب.

الحلول البديلة

ربما لا تتوفر الكثير من الحلول البديلة بالنسبة للمزارعين والتجار، على المدى القريب، إلا أنهم يحاولون بشتى الطرق حتى لا تتضاعف الخسائر.

يبحث التجار عن سبل جديدة للتصدير، حسبما أوضح التاجر أحمد عزيزي، مشيراً إلى محاولات لتحويل خط التصدير من الخرطوم إلى المدن الهادئة في السودان أو إلى الدول المجاورة، أو نحو دول الخليج، لكن لم تفلح أي من تلك المحاولات بعد.

زراعة المحلب لا تتطلب الكثير من العناء لكنها تتطلب شروطاً مناخية خاصة، جعلت نموه محدوداً في جبل الزاوية وأرياف أريحا، وبنسبة أقل في أعزاز بريف حلب الشمالي، وفي بعض المناطق التي سيطر عليها النظام السوري، لذلك فإن خسارته أشد على المزارعين في إدلب، والتي تزيد نسبة أعداد المحتاجين فيها للمساعدات الإغاثية عن 90% من إجمالي أعداد المقيمين، وفقاً لأحدث تقديرات مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية "OCHA"، والصادر في 30 من نيسان الماضي.

وفي حال استمرت خسارة المحلب لن يتمكن المزارعون من استبدال الأشجار، حسبما أوضح المزارع محمد الفضل، لأن الأرض لا تتيح لهم خيارات متعددة للزراعة، لكنهم سيلجؤون إلى تطعيم أشجار المحلب بالكرز أو الوشنة (الكرز الحامض) التي يأمّنون سوقها.

بالنسبة للمزارع رعد عبوس فإن فكرة البحث عن البديل ليست مطروحة على الإطلاق، مشيراً لما تكبده من عناء في زراعتها وتحمل مخاطر القصف في سبيلها، "لن أتخلى عن زراعتها طوال عمري. لأنها الشجرة الرئيسة بالنسبة لي، لأنها الدماء التي تجري في عروقي، ولن أتخلى عنها أبداً".

وفي الوقت الذي يبحث فيه التجار عن حلول ربما يعوضون بها خسائرهم، عبر البحث عن أسواق بديلة، فقد المزارعون الذين جنوا محاصيلهم وباعوها، الأمل بالتعويض، هذا الموسم على الأقل، بعد أن توقفت عمليات التصدير وبيعت محاصيلهم بأسعار متدنية.