فأر الحقل في شمالي غربي سوريا...تكاثر نشط بفضل التغيرات المناخية والحرب

مصعب ياسين

يلقي أبو وسام نظراته الحزينة على حقله المزروع بالقمح في منطقة سهل الغاب، إثر الأذية الكبيرة فيها من انتشار فأر الحقل، والذي حول أكثر من 3 دونمات إلى أرض جرداء وكأنها لم تزرع هذا العام ولم يكسيها الرداء الأخضر.

وعلى الرغم من عمل أبو وسام على مكافحة الآفة بشتى الطرق، وبصحبة أبنائه، إلا أن الانتشار الكبير للفئران هذا الموسم كان له الدور الأكبر بالتخريب في حقلٍ بنى عليه صاحبه الآمال لمعيشة أفضل، لأسرته القابعة في مخيمات أطمة على الحدود السورية التركية منذ العام 2015 على هامش الحياة.

مشكلة أبو وسام لم تكن الوحيدة مع انتشار فأر الحقل هذا العام، بل غزا الأخير معظم أراضي سهل الغاب غربي محافظة حماة، وسهل الروج غربي محافظة إدلب وبعض أراضي ريف حلب الشمالي، مستغلاً الدفء في الطقس والتغيرات المناخية خلال السنوات القليلة الماضية، والتي أسهمت في تكاثره واستمرار أذيته للحقول.

يكشف التقرير كيف أسهمت التغيرات المناخية خلال السنوات الأربع الأخيرة بانتشار فأر الحقل؟ وعن تأثيره على محصول القمح الإستراتيجي في شمالي غربي سوريا، معتمداً على شهادات مزارعين وخبراء زراعيين ومكاشفة لمسؤولين عن الجمعيات والهيئات الزراعية حول الدور المناط بهم لمكافحة الآفة.

تحويشة السنة

استنفذ المزارع حمد العيسى عبوتين كاملتين من مضغوطات  فوسفيد الألمنيوم ذات الفعالية الشديدة التي استدانها من الصيدلية الزراعية لمحاربة فأر الحقل الذي انتشر في بستانه  ( 50 دونماً).

استخدم حمد كامل العبوتين إثر ضياع جهده بعد عدة أيام من وضع الأقراص في جحور القوارض المنتشرة في البستان، حيث عاودت الأخيرة غزو الحقل بعد مرور 4 أيام فقط، مهددة محصول القمح بالضياع من يد حمد.

استأجر الأرض للعام الحالي بمبلغ يصل لـ 50 دولار للدونم، عدا تكاليف ومستلزمات الزراعة، وهذا ما يشكل عامل رعب للمزارع الذي وضع كامل أمواله في الأرض.

وبكلمات متلعثمة يشرح حمد حال معيشته، وعائلته: "آخر ما كنت أتوقعه هو انتشار فأر الحقل في الحقل، لم أتمكن من شراء كامل مستلزمات التدفئة والمؤونة للعام الحالي، بسبب استئجاري للأرض وعملي على زراعتها والاهتمام بها".

اعتقد أن محصول القمح سيمكنه من إعالة أسرته المكونة من 8 أفراد، ولكن فأر الحقل خيب التوقعات.

ويتابع: "لم أعد أستطيع السيطرة على القوارض، وكم عبوة مبيد يجب أن أستدين؟ كل ما أخشاه أن يستمر الفأر بالانتشار حتى فترة نضج القمح ومهاجمته للسنابل، وبذلك يكون كل ما عملت به وكل ما وضعته بالأرض ضاع مني".

زراعة في دائرة الخطر

عملت التغيرات المناخية خلال السنوات الخمس الأخيرة على زيادة انتشار فأر الحقل، بحسب المهندس الزراعي أحمد العلاوي العامل في محافظة إدلب.

وأضاف المهندس الزراعي أن الأمطار لم تعد تهطل بكميات كافية منذ العام 2018، كما كانت في السابق، حيث أن استمرارها طيلة فصل الشتاء يعمل على إغراق جحور فأر الحقل بالمياه وتدميرها.

وتقتصر الأمطار على معدلات ضعيفة بفترات متقطعة، وخير مثال الهطولات المطرية الخجولة خلال شهري كانون الأول والثاني للموسم الحالي، والتي كان لغيابها دور بتنشيط حركة فأر الحقل وبنائه للجحور وتكاثره.

لا يغفل العلاوي أهمية الفلاحة الصيفية للحقول التي من شأنها تقليل أعداد فأر الحقل، إضافة لزراعة الأرض بعدة زراعات متلاحقة، بيد أن غياب مياه الري عن معظم أراضي سهلي الغاب والروج جعلت المزارع يعتمد فقط على زراعة واحدة، وغالباً تكون القمح.

وتصبح زراعة الموسم الواحد فرصة للفأر على السكن والتكاثر في الأراضي الزراعية.

وبالنسبة لتكلفة مكافحة فأر الحقل يلفت العلاوي إلى أن المكافحة للهكتار ذو الأذية العادية  تحتاج نصف عبوة فوسفيد الألمنيوم بتكلفة 6 دولارات وأجور عمال تصل لـ 500 ليرة تركية.

عوامل طبيعية

يرتبط انتشار فأر الحقل بعاملين أساسيين، الأول توفر البيئة المناخية المناسبة وغياب الصقيع والثلوج، والثاني توفر الغذاء بحسب المهندس الزراعي خالد الأحمد، إذ سجلت الأعوام الماضية انتشاراً كبيراً لذلك القارض في عموم الأراضي الزراعية شمالي غربي سوريا، ويتطلب القضاء عليه إجراء عمليات مكافحة جماعية.

يعمل فأر الحقل على قضم أوراق القمح في طور النمو، ومهاجمة السنابل في فترة النضج، بحسب الطبيب البيطري أبو الفداء، حيث يحتاج فأر الحقل لدرجة حرارة تتراوح بين 2_ 25 درجة مئوية للتكاثر والتحرك لجمع الغذاء.

وأكد أبو الفداء أن من بين العوامل التي تحد من تكاثر الفأر انخفاض درجة الحرارة عن 2 مئوية، لفترة 20 يوماً متواصلاً، وتعد تلك الفترة نموذجية للقضاء على الآفة التي تعمل على تخزين الغذاء لفترة أسبوع في جحورها، ومع استمرار الفعالية الجوية المنخفضة وإجبار الفار على عدم الخروج من جحره لجمع الغذاء، يموت جوعاً.

العمليات العسكرية تحد من مكافحة فأر الحقل

في شهر كانون الأول ديسمير حرث المزارع محمد الجاسم أرضه في سهل الغاب، مستغلاً الضباب الكثيف، زارعاً بذور القمح، حيث تتوقف عمليات القصف العسكرية في هذه الفترة.

يعيش المزارع محمد الجاسم في منطقة سهل الغاب، بمنزله الذي هدمت الحرب جزءاً منه، وأجبرت محمد وأسرته على العيش في غرفة واحدة، ما دفعه لزراعة حقل والده بالقمح، هذا العام، بغية إصلاح منزله.

ليس محمد الجاسم الوحيد الذي يعاني من هذا الاستهداف، فمعظم الفلاحين في بلدات الزيارة والقرقور والقاهرة يعانون من ذات المشكلة، ومعظمهم لم يجرؤوا على مكافحة فأر الحقل، خوفاً من مكروه يطالهم وأبناءهم.

يزور محمد حقله مرة واحدة كل شهر، لكن ما يغرق تفكيره هو اتساع أذية فأر الحقل هذا العام، حيث تمتلئ الأرض بالجحور ومساكن الفئران التي تعمل على قضم أوراق نباتات القمح، دون أن يستطيع مكافحتها، سيما بعد استهداف قوات النظام السوري للمزارعين في الأعوام الماضية.

يقول المهندس علاء الشيزري إن منطقة سهل الغاب القريبة من نقاط تمركز قوات النظام تنتشر فيها فئران الحقل لعدة أسباب، فهي تعتمد على موسم زراعي واحد في العام، كما تنتشر الأقنية والأراضي الزراعية المهجورة بين الحقول، إضافة إلى كون المنطقة دافئة نسبياً، ما يساعد على وجود بيئة مناسبة لفأر الحقل.

وتختلف نسبة انتشار فأر الحقل في منطقة سهل الغاب الغربي عن الأراضي الزراعية في ريف حلب الشمالي التي لم يهجرها أصحابها، وهي دائمة الزراعة بعدة محاصيل في العام الواحد، إضافة إلى برودة الطقس هناك، سيما في منطقة عفرين ذات الهطولات الثلجية السنوية، والتي تسهم بمجملها في القضاء على فأر الحقل، وإن وُجد يبقى بنسب منخفضة.

جهود محلية وواقع مخيف

أصدرت وزارة الزراعة في حكومة الإنقاذ ذات النفوذ في ريفي حلب وحماة الغربيين ومحافظة إدلب، تعميمات تنبه من انتشار فأر الحقل، وقدمت مبيدات من خلال دوائرها لمكافحته، بحسب رئيس دائرة الشؤون الزراعية والوقاية في وزارة الزراعة المهندس عبد اللطيف غزال.

ووجهت مديرية زراعة حلب التابعة للحكومة السورية المؤقتة المزارعين للقضاء على فأر الحقل، وبحسب مدير زراعة حلب المهندس حسن الحسن ليكون التحرك من قبل المزارعين، والتنبه إذا ما تعدت نسبة الجحور بين 30-40 جحراً في الدونم الواحد، حيث اقتصرت جهود المديرية على التوجيه والإرشاد للمزارعين في مناطق  (أعزاز – مارع – الباب – الراعي).

ليست مشكلة القوارض وتأخر الأمطار السبب الوحيد بتراجع الزراعة بمنطقة سهل الغاب، بل لا زالت المنظمات عاكفة عن دخول المنطقة منذ العام 2015 وسط ارتفاع أسعار الأسمدة والبذور والأدوية، التي من المفروض أن يتلقى المزارع الذي أنهكته الحرب والنزوح عن دياره جزء منها دعم لزراعته  حيث تراجعت قدرة المزارعين في منطقة سهل الغاب، على تحمل تكاليف وعبء الزراعة المتغيرة كل عام، وسط غياب الدعم الحقيقي للمنطقة من المنظمات المعنية بالشأن الزراعي، بحسب المزارع أحمد الصالح.

وأكد الصالح أن الإهمال المتواصل لشأن المزارعين في المنطقة ذات المساحات الشاسعة، سيجعل المزارع يعود للخيمة كحل أفضل من تكلف مصاريف الزراعة الكبيرة على سكان تهدمت منازلهم منذ سنوات بسبب الحرب كانوا يأملون أن يجدوا من يمد لهم يد العون عند العودة لأراضيهم، وبالاضافة لتأمين وبذات الحال سيكون الانعكاس صعب على الأسواق بهجر منطقة زراعية لها الدور الكبير بإنتاج القمح لبلدات ومدن شمال غرب سوريا.

وذكرت شبكة الخبراء المعنية بالتغيرات المناخية في البحر الأبيض المتوسط، في الدراسة الصادرة عنها أن الفترة الزمنية بين العام 2008 و 2019 شهدت ارتفاعاً بمقدار درجتين، ما يؤدي إلى تسارع متصاعد في معدل الفارق الحراري العام، والذي بدوره يفضي إلى تراجع معدلات هطول الأمطار المصحوب بارتفاع درجات الحرارة، إلى ظروف مناخية أكثر جفافاً، فقد عانت سوريا جفافاً مضافاً وقلة هطول للأمطار في السنوات 2019-2022 مع جو أكثر حرارة.