الحرب على غزة… الذاكرة المتجددة عن الموت والنزوح لفلسطينيي سوريا


سامر مختار

ألقت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة بثقلها على ذاكرة فلسطينيي سوريا، إذ أن هذه الذاكرة التي ورثت من الأجداد والآباء قصص الشتات والنزوح والتهجير من فلسطين، عاشت وشهدت شتاتاً وتهجيراً وموتاً وفقداناً داخل المخيمات الفلسطينية في سوريا خلال السنوات الماضية.

صور الدمار والقتل والجثث التي يتم انتشالها من داخل أبنية مدمرة لضحايا مدنيين من أطفال ونساء وكبار السن، إلى جانب صورة الأطفال العطشى بسبب انقطاع مياه الشرب عن قطاع غزة، وانقطاع المواد الغذائية وتدمير أفران الخبز، جميعها كانت تذكر بما عاشه فلسطينيو سوريا في مخيم اليرموك، وما عاشه السوريين أنفسهم في مناطق وأحياء كثيرة بمختلف أنحاء سوريا.

في طريقها إلى مبنى بلدية أمستردام، لتقديم أوراقها من أجل الحصول على الجنسية الهولندية، كانت عينا الناشطة الحقوقية الفلسطينية السورية إكرام جلبوط مثبتة على شاشة هاتفها، تتابع آخر تطورات القصف الإسرائيلي على قطاع غزة.

وبعد مضي ساعات قليلة من تقديمها أوراق الحصول على الجنسية، انهارت باكيةً، حين ظهر على شاشة هاتفها، خبرٌ مفاده أن هولندا أرسلت جنوداً إلى جزيرة قبرص اليونانية للتدخل الفوري لصالح إسرائيل.

حين قرأت إكرام هذا الخبر شعرت بخيبة ممزوجة بثقل سنوات طويلة من المعاناة، كونها عاشت وولدت كلاجئة فلسطينية في سوريا، ثم محاولتها النجاة من الحرب والدمار والموت جوعاً، أو قتلاً، في مخيم اليرموك، وأخيراً محاولة البدء في حياة جديدة في هولندا.

تقول إكرام: "بكيت .. بكيت ع باسبور لونه أحمر .. باسبور دموي .. حتى هولندا خذلتني".

ذاكرة مفتوحة على مخيم اليرموك

فتحت حرب الإبادة الجماعية التي شنها الجيش الإسرائيلي على الفلسطينيين في قطاع غزة ذاكرة إكرام على حياتها داخل المخيم منذ طفولتها وحتى لحظة خروجها منه. إذ تقول لـ "روزنة": ولدت في مخيم اليرموك وعشت فيه حتى آخر نفس من الحياة، وواجهت بداخله كل أنواع الخوف.

مازال صدى أصوات عذابات أهالي المخيم يصدح داخل رأسي. ومشاهد الدم والأشلاء والدمار لم تُمحَ من ذاكرتي. كل ذلك عشته في مخيم اليرموك دون أن أبكي، فالشعور بالدهشة كان أكبر من إحساس الخوف بداخلي.

وأضافت: لم أكن أحب مخيم اليرموك طوال فترة حياتي ونشأتي بداخله. لكن مشاهد الدمار المخيفة التي كنت شاهدة عليها قبل أن أخرج منه في عام 2018 حُفرت في ذاكرتي من الصعب نسيانها.

مع بداية معركة" طوفان الأقصى"، وما تلاها من قصف وإبادة جماعية على قطاع غزة، استعادت ذاكرة إكرام مشاهد الحرب في سوريا، وأدركت أنه حان الوقت للتعامل مع نفسها وكأنها "ناجية" من جديد، كما تروي لنا، إذ كانت تشاهد القصف الإسرائيلي على غزة، وذاكرتها تعود لمشاهد القصف على مخيم اليرموك، وتدمير الجوامع ومدرسة الأونروا والمستشفيات ومراكز الإيواء، حسب قولها.

الفرق الوحيد بين النظام السوري وإسرائيل، هو أن الأخيرة "تُخبر" الناس بأنها ستقصف منطقة معينة قبل قصفها، لكن النظام لم يخبر أهالي مخيم اليرموك بمواعيد قصفه لهم، بهذا المنطق كانت إكرام تتحدث مع زملائها الهولنديين في العمل، خلال الأيام الأولى من من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.

تقول إكرام: بكيت كثيراً لحظتها. من عبثية المنطق الذي تحدثت به من ناحية، وحزناً على أهالي مخيم اليرموك وغزة، من ناحية أخرى، إذ أن هؤلاء هم الوطنيون الوحيدون الذين أعرفهم. بكيت عوضاً عن جدي وجدتي، الذين لم يستطيعوا البكاء أمامنا.

وأضافت: مع الحرب التي نشهدها منذ 7 أكتوبر الماضي على قطاع غزة، عدت بذاكرتي 14 عاماً إلى الوراء، إذ توفيت جدتي في عام 2009 وهي تشاهد القصف والقتل والمجازر التي ترتكبها إسرائيل بحق أهالي غزة في الحرب التي شنتها إسرائيل على القطاع ما بين 27 ديسمبر 2008، و18 يناير 2009.

كنت أبكي من ثقل رحلة شتاتي وشتات عائلتي وانتهاء مرحلة من حياتنا إلى الأبد، وبأننا لن نستطيع استعادتها سوى بالقليل من الذكريات، التي بدأت تتلاشى شيئاً فشيئاً في غربتي الجديدة.

يبلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين في سوريا 529،000 لاجئ، مسجلين لدى منظمة الأونروا، 160،000 منهم كانوا يعيشون في مخيم اليرموك، قبل عام 2011، والذي فرض عليهم النظام السوري حصار كاملاً في 18 حزيران (يوليو) 2013.

استعادة مأساة مخيم اليرموك مع الحرب على غزة

وبالتزامن مع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لم يكن من الصعب على فلسطينيي سوريا استدعاء شبح حصار مخيم اليرموك، إذ طبق النظام السوري حينها حصاراً شاملاً على المخيم، ومنع إدخال المواد الغذائية والطبية ورافقه قطع للماء والكهرباء بشكل كامل عن كافة الأحياء والمنازل داخل المخيم.

وكانت منظمة مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية قد وثقت بيانات 219 ضحية من اللاجئين الفلسطينيين السوريين، بينهم 37 طفلاً، و151 رجلاً، و68 امرأة، قضوا إثر الجوع ونقص الرعاية الطبية بسبب حصار مخيم اليرموك خلال أحداث الحرب.

المأساة نفسها، عاشها الفلسطينيون في غزة. إذ قطعت إسرائيل عن قطاع غزة الماء والكهرباء والوقود، وقصفت أفران الخبز. ومنعت دخول المساعدات الإنسانية في الفترة الأولى، إذ دخلت أول 20 شاحنة مساعدات إلى قطاع غزة من معبر رفح المصري بتاريخ 20 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، أي بعد 14 يوماً على بدء القصف الإسرائيلي على غزة.

ورغم تدفق المساعدات إلى القطاع، لم يتوقف القصف الإسرائيلي على غزة، مع انقطاع الكهرباء واستمرار أزمة الوقود، وانقطاع مياه الشرب، لدرجة اضطرار أهالي غزة لتحلية مياه البحر واستخدامها للشرب.

معضلة أن تكون فلسطينياً سورياً

حين وصلت إكرام إلى أوروبا، كانت "محسودة"، من قبل البعض، بأنها stateless (عديمة الجنسية)، كما توضح لنا، إذ سهّل عليها وضعها هذا الحصول على جنسية في وقت قصير.

تقول إكرام: "لا أحد يعلم، من الأشخاص الذين يحسدونني، بأن جواز السفر لا يمكنه ملء الفراغات الموجودة بداخل شخصيتي منذ أن كنت طفلة تتحدث باللهجة الفلسطينية لا "الشامية". ولا يعلمون أنني حين أصبحت شابة يافعة لم يتح لي سوى الذهاب إلى "مدرسة اللاجئين"، كنت مراهقة أخجل أن أقول بأنني أسكن في مخيم للاجئين".

وتتابع إكرام: حين يسألني أحدهم؛ من أين أنتِ؟ أجيبه: "أنا سورية بس فلسطينية.. يعني نولدت بسوريا بس ما معي جنسيتا .. بعمري ما شفت فلسطين وبحس حالي شامية". أصبحت فكرة الانتماء، لوطن أو مكان ما، معضلة أواجهها بشكل متكرر في هولندا، حيث أقيم. وأسأل نفسي طوال الوقت؛ هل الوطن سوريا؟ أم فلسطين؟ هولندا الملاذ الأخير؟.

ورغم أن إكرام تتقن أكثر من لغة إلا أنها لا تستطيع التعبير عن القهر الذي في داخلها بأي لغة من اللغات التي تتحدث بها، وتشعر بالاختناق، والعجز وهي تتابع أقسى الفيديوهات القادمة من قطاع غزة، حسب تعبيرها.

تقول إكرام: أتخيل نفسي تحت الأنقاض، لأنه كان الممكن أن يكون مصيري، مثل أي إنسان فلسطيني في غزة أو في مخيم اليرموك سابقاً، تحت الأنقاض. أثناء متابعتي لما يجري في غزة، كنت أتخيل نفسي جالسة على بلاط مستشفى الشفاء البارد، وأتأمل الناس وأبكي عليهم. إنها عقدة الناجي، وأنا أسميها "لعنة الناجي".

ولدت القضية الفلسطينية من رحم الخيانات

تتابع السيدة عفاف (اسم مستعار)، والتي تبلغ من العمر 64 عاماً الحرب على قطاع غزة من منزلها وسط مدينة دمشق، وتشعر بخيبة أمل كبيرة كلما استعادت في ذهنها التاريخ الطويل لما اسمته "خيانات الدول العربية".

تقول عفاف: يقولون فلسطين "نكبة العرب" بينما العرب هم نكبة فلسطين. ولدت قضيتنا من رحم الخيانات والعجز، وسعي الأنظمة العربية للبقاء بالحكم وتحالفها مع الاستعمار البريطاني، والذي أدى إلى إجهاض ثورة ١٩٣٦ ووقوع الحركة الوطنية الفلسطينية ضحية السياسة البريطانية "وعد بلفور".

وأضافت: بعد نهاية حرب ١٩٤٨ تكفلت الأنظمة العربية في تفتيت الفلسطينيين وتحويلهم إلى شعب من اللاجئين في مخيمات مغلقة. ناهيك عن القمع الذي تعرضوا له في المنافي العربية، في مخيمات "صبرا وشاتيلا" و"تل الزعتر" واليرموك وغيرها.

ترى عفاف أن الشعب الفلسطيني اختار طريق الصمود والمواجهة، ولم يسقطوا إلا شهداء، بينما حكومات الجيوش العربية لم تُبدِ استعدادها لدخول الحرب، ولم تقدم أي دعم لوجستي للقضية في حينها.

بل فعلت العكس، سَحَبتْ الأسلحة من الفلسطينيين، وتم التخطيط لغزوٍ أردنيّ للضفة، ورفض قيادة الجيش العراقي التقدم، والانسحاب بعد أن كان تحرير حيفا وشيكاً، وإرسال النظام الملكي في مصر أسلحة فاسدة عن عمد، حسب قولها.

واعتبرت أنه مع أخذ الدول العربية دور المتفرج على الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، يتكرر والتاريخ يعيد نفسه، منذ نكسة ٦٧ واحتلال إسرائيل للقدس الشرقية والضفة الغربية ومعظم مرتفعات الجولان وشبه جزيرة سيناء، لتأتي بعدها "اتفاقية أوسلو" والاعتراف بدولة اسرائيل وتأسيس سلطة فلسطينية ذات حكم ذاتي، ثم حصار غزة عام ٢٠٠٧ بدعم أمريكي وأوروبي، والتطبيع من قبل بعض البلدان العربية والسلام الإبراهيمي، وصفقة القرن بمساندة العديد من الحكومات العربية.

تقول عفاف: من حق الشعب الفلسطيني الدفاع عن أرضه بكل الوسائل الممكنة، وإسرائيل كـ"دولة محتلة" لم ولن تتوانى عن شن حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني، ما يجعل موقف الدول من المواجهة الحالية بين حماس وإسرائيل سؤالا ملحاً. كمواطنة فلسطينية الأصل، تعيش في الشتات، لا أستطيع التفكير إلا بكل ما سبق مع الإحساس بالعجز الكامل.

كان عمري خمسة أعوام حين حدثت النكبة

كان أبو ميمون يبلغ من العمر خمسة أعوام حين هُجِّرَ وعائلته من فلسطين عام 1948. فهو من مواليد 1943 من الجليل الأعلى من قرية ترشيحا التابعة لقضاء عكا، ويتابع يومياً ما يجري في قطاع غزة من قتل وقصف ودمار للبيوت والجوامع والمستشفيات وتشريد للأهالي، ويتذكر جيداً رحلة التهجير الأولى والقصف الذي تعرضت له قريته في عام 1948.

يقول أبو ميمون: لم نكن مشغولين وقتها سوى بإزاحة أنقاض بيت من طابقين انهار على رؤوس ساكنيه، فقتل منهم سبعة أشخاص. ما حدث يتكرر الآن في غزة. العدو نفسه، الكيان الصهيوني، قتل أهلنا في الماضي ويستمر في قتلنا في الحاضر.

وأضاف: طُردنا من بلادنا، ولم يكن لدينا أسلحة تقاوم الطيران الذي يدمر بيوتنا ويقتلنا. غادرنا قريتنا ترشيحا، التابعة لمدينة عكا، سيراً على الأقدام، ولم نستطع إخراج جميع القتلى، أخرجنا ثلاثة وبقي في القرية أربعة. كان عمري وقتها خمس سنوات، حين مشيت مع عائلتي من قريتنا حتى الحدود اللبنانية، 7 كيلو متر. كانت الأراضي التي مشيناها شديدة الوعورة. وصلنا إلى لبنان، ثم ركبنا القطار المتجه إلى حلب، كانت هذه مرحلة الخروج الأولى، وعانينا كثيراً.

عاش أبو ميمون المأساة نفسها في سوريا، لكن من كان يقصف منزله ليست الطائرات الإسرائيلية، بل طائرات النظام السوري، كما يروي لنا، إذ كانت زوجته في ذلك الوقت مريضة، تعاني من قصور كلوي، وكان همه أن يصل لمنطقة معينة، يستطيع إدخالها المستشفى، في حال تدهورت صحتها وشعرت بآلام مفاجئة.

يقول : حينها، ذهبت إلى مساكن هنانو، لأكون على مقربة من المستشفيات، ثم تعرضت المنطقة هناك للقصف بالبراميل، لتستمر رحلة نزوحنا إلى أطمة في محافظة إدلب، وبعدها إلى مدينة انطاكيا في تركيا وهناك توفيت زوجتي أثناء عملية غسيل الكلى.

لم يستطع أبو ميمون البقاء وحيداً في تركيا، لذا عاد إلى سوريا ليعيش مع بناته المتزوجات. واليوم يقضي جل وقته يتابع ما يحدث في غزة من خلال نشرات الأخبار وقنوات البث المباشر عبر شاشة تلفزيون كبيرة.