أمهات وحيدات يواجهن العالم للحصول على حريتهنّ
اعداد هبة الخاروف
"أمهات وحيدات" هن اللواتي تحملن قرار تربية أبنائهن دون زوج أو شريك، مجبرات في بعض الأحيان أو كان الخيار الأفضل لاستكمال الحياة.
أمهات عازبات قررن تحمل مسؤولية أطفالهن، وحماية أنفسهن باستقلالية اقتصادية، يحاربن الدنيا من أجل تحقيقها وتربية أبنائهن.
هؤلاء النسوة هنّ ضحايا عنف أسري واجتماعي واقتصادي، مستباحات لشتى أنواع الانتهاكات، فقط لأنهن قررن مواجهة ظروفهن القاسية، والتحرر من قيودها.
لست مذنبة
أنجبت رانيا، (30 عاماً) ولدين، وتعرضت للعنف الأسري من قبل زوجها لمدة عامين قبل أن تتخذ قرار الطلاق.
عندما وصلت إلى تركيا في عام 2015، كانت تحمل ابنتها الرضيعة بين ذراعيها، وقت تخطيها الحدود البرية آنذاك، ولم تكن تعرف أن حياتها في البلاد الجديدة ستنقلب راساً على عقب.
مع مرور الأيام، كبر الطفلان أمام مشاهد التعنيف التي تتعرض لها رانيا، ووجدت نفسها محاصرة بخيار وحيد وهو الهرب.
"ما بدي بنتي تكبر وتتزوج ويكون زوجها معنّف وتقول معلش أمي كانت تنضرب وتسكت".
تقول: "عشت ستة أشهر بعد الطلاق كان التشتتُ عنوانها،أصبحت امرأة مطلقة وحيدة بلا مأوى و ضائعة ومدمرة نفسياً، مع طفلين لم يتجاوز عمرهما خمس سنوات،حتى تأمين ثمن الطعام لم أكن قادرة على تأمينه".
اتخاذ قرار الطلاق لإنهاء زواج استمر مدة 6 سنوات لم يكن أمراً سهلاً، حسب رانيا، لكن الدعم الذي تلقته من صديقاتها ساعدها في دعمها و اتخاذ قرار الطلاق والبحث عن عمل.
لم تكن عائلة رانيا داعمة لقرار الانفصال، حالهم حال العديد من الأهل، الذين يرفضون فكرة طلاق الفتاة، رغم تعرضها للعنف لاعتقادهم بأن "الزواج أفضل من بقائها وحيدة"، ولكن في النهاية قدموا لها الدعم.
وعن ذلك تقول :"أهلي نازحين وعندي اخوات صغار ما بدي زيد حمل عليهم وبعرف وضعهم على قدن".
تلقت رانيا بعد نصف عام من انفصالها تدريباً في مؤسسة تعمل في مجال الإعلام، ولاحقاً حصلت على فرصة للعمل في تلك المؤسسة.
قد يتوقف العنف الأسري بعد الطلاق، لكن العنف الاقتصادي ليس بالأمر السهل، فهو كمن يتربص بالسيدات المطلقات.
" لم تكن الحياة وردية، فأنا في بلد غريب، وبعيدة عن عائلتي والظروف الاقتصادية المتردية في ظل الغلاء المعيشي هو تحدي قاسي واجهته"، وتضيف: "كان يجب أن أوفر إيجار المنزل وتأمين روضة لطفليها بسعر مناسب، وبدوام متوافق مع ساعات عملها المكتبي"، تضيف رانيا.
بات لقب "المطلقة" يلاحقها في حياتها الاجتماعية. فالمجتمعات الشرقية لا تقبل بسهولة قرار الطلاق، وتحاصر المرأة بهذه الصفة، ما اضطرها لإعادة بناء شبكة علاقاتها الاجتماعية القريبة منها والبعيدة.
ليست الوحيدة، فهي كغيرها من السوريات الكثيرات اللواتي تعرضن للطلاق بعد أن وصلن إلى تركيا، وحيدات مع معاناتهنّ، يعملن ساعات طويلة لتأمين قوت الحياة لهن ولأطفالهن، دون معيل أو سند، في ظل تردي الوضع الاقتصادي وتدني الأجور، وارتفاع نسبة الفقر بين السوريين.
ومع بدء الحرب الأوكرانية الروسية ارتفعت الأسعار في تركيا بشكل مضاعف خلال العام الأخير، وفاق هذا الارتفاع طاقة الكثير من السوريين والسوريات، حيث وصل سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة التركية في شهر تموز الماضي إلى نحو 92 بالمئة في عام واحد، وفق وكالة "الأناضول".
وبات على رانيا مواجهة معدل التضخم السنوي في تركيا إلى أعلى مستوى خلال 24 عاماً عند 78.62 بالمئة، وفق "معهد الإحصاء التركي" لتأمين حياتها وحياة طفليها.
تدفع اليوم رانيا خمسة آلاف ليرة تركية لتسديد إيجار المنزل، بعد أن كان الإيجار في العام الفائت نحو ألفي ليرة.
ورغم كل هذه التحديات، تستيقظ كل صباح، لتوصل أبنائها للمدرسة، وتستقلّ الحافلة الذاهبة إلى عملها، لكنها اليوم أقوى مما مضى: "تجربة الزواج غير الموفّقة علمتني الكثير، جعلتني أشعر بنفسي، استطعت تحقيق ذاتي، وأكون كما لم أكن يوماً" .
عملي شريف ولكن قاطعتني عائلتي
التحقت أم هادي بعائلتها في تركيا قبل 6 سنوات، حينما توفي زوجها في أحد المستشفيات التركية، جراء تعرضه لإصابة جراء القصف في مدينة حلب وتم نقله عبر المعبر الحدودي إلى تركيا لتلقي العلاج، لكنه توفي في إحدى المشافي مدينة غازي عينتاب.
ولم يكد يمر شهران على انضمامها لعائلتها ووفاة زوجها، حتى وصلها قرار العائلة بأن ترسل أطفالها لعائلة والدهم المتوفى، رافضين إعالتهم وتربيتهم.
قررت مواجهة العائلة وتربية أطفالها لوحدها، لكنها كانت بمثابة الفريسة لبعض الرجال في سوق العمل. فهي امرأة وحيدة، معيلة لأطفالها، بحاجة لكل قرش حتى تعيش.
عملت كمساعدة للطاهي في أحد مطابخ مطاعم مدينة…..، وتحملت المضايقات والتحرش الجنسي من قبل عمال المطعم مدة 8 أشهر قبل أن تترك العمل.
تقول: " كانوا 4 شباب يشتغلوا معي في المطبخ، بالأول كانت المضايقات بالحكي والتلميح، بس بعدين صرت حس إنهم كل مرة يحاولو يخلوا حدا فيهم يختلي معي، وكأنهم عم يراهنوا علي مين بقبل حاكي فيهم".
تقدمت أم هادي بشكوى إلى المسؤول عن المطعم، معتقدة أنها ستلقى الحماية، لكن جوابه لم يكن ليخطر على بالها.
"مو عاجبك اطلعي أنا ما بدي مشاكل هون".
خلعت أم هادي ثوب المطبخ وخرجت حاملة معها همّ البحث عن عمل آخر دون عودة.
في مطعم آخر، كان المدير هو المتحرش، تقول :"قام بوضع يده على أجزاء من جسمي وتلفظ بكلمات جعلتني ارجف في مكاني (أنت كتير حلوة خليكي لا تهربي والله مارح أعمل شي)... رجوته أن يبتعد عني لئلا أخسر عملي دون فائدة".
ولأنها وحيدة يعتقد بعض الانتهازيين أنها مستباحة. وتكمل قصتها: "لم يكتفِ المدير بالتحرش فقط، بل عرض عليّ مساعدتي باستئجار منزل، مقابل ترك العمل وإقامة علاقة معه".
وتواجه السوريات في بلاد اللجوء الكثير من المصاعب، إحداها التعرض للتحرش في سوق العمل، حيث تدفعها الحاجة المادية للسكوت عن فعل المتحرش، وتجاهل سلوكه خوفاً من الفضيحة، التي قد تلحق بها، إضافةً للجهل بقوانين البلد الذي تعيش فيه.
يعاقب القانون التركي المتحرش دون اللمس بالسجن لمدة لا تقل عن شهرين، ولا تزيد على سنتين وفق المادة 105 من قانون العقوبات التركي.
أما جريمة الاعتداء الجنسي فيعاقب مرتكبها في حال كان التحرش بوضع اليد على جزء من جسد المرأة أو الفتاة لثوانٍ بالسجن لمدة لا تقل عن 5 سنوات، ولا تزيد عن 10 سنوات، وفق المادة 102 من قانون العقوبات التركي.
ويعاقب بالسجن لمدة لا تقل عن 12 سنة، ولا تزيد عن 20 سنة، من قام بالاعتداء الجنسي العنيف، وتضاعف العقوبة في حال تم ارتكابها ضد أشخاص لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، لإعاقة جسدية أو روحية أو نتيجة استغلال الوظيفة الحكومية أو صلة القرابة أو أماكن الازدحام كالحافلات.
ترددت أم هادي كثيراً قبل أن تعود لتبحث عن عمل جديد في مطعم آخر، فقررت أن تبدأ العمل بتحضير المونة المنزلية وطبخ المأكولات وبيعها، إضافة إلى تنظيف المنازل، لكن هذه الفكرة لم تناسب الصورة الاجتماعية وسمعة العائلة.
"بسبب عملي قاطعتني عائلتي وعائلة زوجي المتوفى، لكني حققت استقلالاً مادياً استطعت خلاله إعالة أطفالي، لكن في المقابل أيضاً خسرت صحتي لصعوبة ظروف عملي المتواصل دون أيام راحة، أعاني من "الديسك" في ظهري، وألم في المفاصل" تقول أم هادي.
لا تنحصر معاناة النساء في تأمين الاستقلال الاقتصادي، فهناك قيود اجتماعية لا حق للمجتمع فيها، يقيد المرأة وحياتها: "كل ما بدي اطلع زيارة بحسب مية حساب والناس بتاكلني بعيونها، والشاطر مين بدو يطلع علي حكي، غير عالشغل، ما عد رحت".
"لأني أرملة، لا أحد يساندني، ورغم ذلك يضغط عليّ، والأيادي المتحرّشة تمتد لتنتهك ما تبقى لي من كرامتي".
ولا توجد أرقام رسمية دقيقة تحصي أعداد النساء السوريات العاملات في تركيا، لأسباب في مقدمتها غياب عقود العمل وتسجيل العمال والعاملات السوريين والسوريات في تركيا.
أم محمد و الزوجة الثانية
أم محمد (35 عاماً)، سيدة متزوجة وأم لثلاثة أطفال أجبرتها الظروف والعنف الأسري على التخلي عنهم، وطلب الطلاق.
كان زوجها يجبرها على منحه كامل راتبها، وإلا سيكون الضرب والإهانة جزائها، وبقي الأمر كذلك حتى تزوج من امرأة ثانية. وازداد الواقع سوءاً فالزوجة الثانية باتت جزءاً من ميزانية راتب أم محمد.
"عندما بدأت بالعمل كنت أعطيه راتبي وأشاركه في مصروف البيت بكامل إرادتي، لكن الأمر تحول إلى الإجبار لاحقاً وأصبح يأخذ الراتب دون أن يصرف على المنزل كما يجب".
تعمل ضمن أحد المراكز في تركيا بشكل مخالف، فصاحب العمل لم يستخرج لها إذن عمل أو تأميناً صحياً.
مرت سنة ونصف على هذا الحال، ولكنها بعد ذلك حزمت أمرها، وقررت الهروب لوحدها إلى ولاية تركية بعيداَ عن زوجها.
اليوم أم محمد تعيش في سكن مخصص للسيدات، قادرة على إعالة نفسها وسعيدة بعملها، وقد خضعت لجلسات في العلاج النفسي.
لكن كلفة هذه الحرية كانت خسارة أطفالها، ولوم العائلة، وكلاماً مؤذياً لسمعتها.
أُنجزت هذه المادة في إطار برنامج تدريب يضم صحفيات وصحفيين من سوريا من تنظيم “أوان” وبدعم من منظمة "دعم الإعلام الدولي"International Media Support".
