المزاد المشبوه..

عن إمبراطورية رفعت الأسد في فرنسا والعدالة المنقوصة

تحقيق: محمد الحاج - الاشراف: لجين حاج يوسف - التصميم البصري: دليار علي

"ألفان.. 12 ألفاً.. 20 ألفاً.. 30 ألفاً.. تم البيع".. في الصالة التاسعة بفندق "DROUT" وسط العاصمة الفرنسية باريس، عرضت535 قطعة من قصر فاخر للبيع بمزاد علني.

يتشاور الحاضرون حول كل قطعة بأجواء حماسية، يرفعون السعر أو ينسحبون، دون معرفتهم ربما أن المقتنيات تعود لقصر من يلقب بـ"الجزار" لدى سوريين كثر.. رفعت الأسد.

رفعت الأسد عم رئيس النظام السوري بشار الأسد، نائب رئيس سوريا سابقاً، المقيم في أوروبا منذ 1984، صدر بحقه حكم بالسجن في فرنسا لمدة أربع سنوات في شهر أيلول من عام 2022، بعد أن وجهت له تهمة غسل الأموال في إطار عصابة منظمة واختلاس أموال سورية عامة والتهرب الضريبي بين 1996 و2016 حسب قرار محكمة التمييز الفرنسية.

حيث رفضت محكمة التمييز أعلى محكمة في القضاء الفرنسي، المسعى القانوني الأخير أمام رفعت الأسد، وثبتت بشكل نهائي الحكم بالسجن أربع سنوات الصادر بحقه في قضية عقارات اكتسبت بشكل "غير مشروع" وتقدر قيمتها بتسعين مليون يورو.

حجزت دار "ADER" للبيع، طابقاً كاملاً لعرض مقتنيات فاخرة، والقاعة الأبرز في الفندق لعرض محتويات قصر في جادة فوش الراقية بباريس، واشترطت أن يكون البيع نقداً.

حضور في القاعة ومشترون عبر الهاتف، وسوريون وعرب يشاركون بالمزاد. سرية وغموض حول هوية البائع، وشكوك حول صلة بعض الحاضرين برفعت الأسد.

روزنة كانت حاضرة في المزاد، تواصلت مع دار العرض، سألت عن ملكية القطع الخمسمئة، وعاينت محيط القصر، كما بحثت عن تفاصيل حول إمبراطورية رفعت العقارية في باريس ومحيطها.

المزاد.. عرب وسوريون يزاودون والبائع مجهول الهوية!

دخلنا إلى فندق "دروت" الواقع في جادة مليئة بالمعارض الخاصة ببيع القطع النادرة والفاخرة والثمينة. صالات الطابق الأول مخصصة بالكامل لعرض قطع أثاث وأواني ولوحات وثريات ومرايا وسجاد.

العشرات من التحف والخزائن المذهبة العتيقة، واحدة على طراز لويس السادس عشر وقطعة أثاث يقدر ثمنها بثلاثين ألف يورو تحاكي شبيهاتها في قصر فرساي. أنت أمام "مناسبة خاصة لعرض مذهل".

في الصالة التاسعة، يعرض موظفو "ADER" ، القطعة تلو الأخرى للبيع. شرح مبسط عن القطع، خطوط هاتف مفتوحة، والتنقل بين مزاود وآخر، والمبالغ بآلاف وعشرات آلاف اليورهات في كل مرة.

الشابة السورية (أ.ف) دفعها فضولها لحضور المزاد، تقول لـ"روزنة": "لا أحد يذكر رفعت الأسد هنا. هل يعلم هؤلاء أن قاتل السوريين في حماة وتدمر ومن نهب أموالنا، كان ينام ويجلس على القطع الملكية هذه.. يأكل بمعلقة الذهب لسنوات بينما كنا نعيش بفقر هناك.. يدوس على سجادة إيرانية فاخرة هنا ويتمعن بلوحة تباع بعشرات آلاف اليوروهات، والناس جائعة في سوريا!!".

تخرج الشابة، التي فضلت عدم ذكر اسمها، من الصالة: "أشعر أن الأوكسجين انقطع في المكان. ليتني لم أحضر. قهر وغضب بداخلي عما يحصل أمامي. إنه جزء من بيع آل الأسد لسوريا المنهوبة".

كيف سُمح لرفعت بحياة الملوك هذه؟ كيف هرب؟ لمن ستعود هذه الملايين؟ هذه الدنيا غير عادلة".
شابة سورية حضرت المزاد

لم تكن الشابة هي السورية الوحيدة الحاضرة، ففي اليوم الثاني من المزاد، لاحظنا حضور عدد من الأشخاص الذين يتكلمون العربية واللهجة السورية.

الصف الأول تصدرته سيدة ستينية ترتدي الحجاب وبملابس ثمينة، لا تشتري ولا تزاود غالباً، تتبادل الحديث بالعربية والهمسات فقط، مع سيدات أخريات يجلسن حولها وخلفها، حاضرات على طول عمليات البيع.

لم تستطع "روزنة" تحديد هوية أي منهم أو إذا كانوا "من حاشية رفعت الأسد وأقاربه لمراقبة عملية البيع أو شراء قطع محددة" كما أشارت الشابة (أ.ف): "حضورهم مريب. هل يمكن للصدفة أن تجمع سوريين وعرب وسيدة يبدو لي أنها خليجية وأخرى تراقب بالصف الأول عمليات بيع محتويات قصر كان لرفعت؟!".

ذهبت نسبة جيدة من القطع التي بيعت في المزاد، لأشخاص يتصلون عبر الهاتف، إضافة لآخرين في القاعة يبدو اهتمام بعضهم بشراء القطع وإعادة بيعها، حيث يتجولون بين مزادات الفندق المختلفة.

حاولنا الحصول على معلومات من دار البيع عن الجهة التي تعود لها ملكية القطع، مع ذكرنا لاسم رفعت الأسد بشكل مباشر، بصفته مالك القصر لسنوات.

بعد انتظار واتصالات، تعذر الحصول على إجابة في الفندق، لنحصل لاحقاً على رد مقتضب عبر بريد إلكتروني، لأسئلة عديدة، جرى تجاهل غالبها.

"المعلومات المتعلقة بهوية البائع سرية، وبصفتي وسيطاً لا يحق لي الكشف عنها. ومع ذلك، أود أن أخبرك أن البائع ليس الشخص الذي ذكرته (رفعت الأسد) وأن البيع طوعي تماماً".
قال ديفيد نوردمان من دار "ADER" لـ"روزنة"

"البيع الطوعي" يعني أن القطع الخمسمئة تعود ملكيتها لطرف ثالث مجهول (ليس رفعت الأسد ولا الدولة الفرنسية التي صادرت أملاكاً له)، ما يبقي أيضاً احتمالية بيعها من قبل أحد المقربين له، واردة.

جمعية "شيربا" التي رفعت الدعوى ضد رفعت بالمحاكم الفرنسية في 2013، سبق وأن حذرت على لسان مديرتها ساندرا كوسارت، بعد إدانة عم رئيس النظام قبل أشهر: "يجب على الدولة الفرنسية ضمان عدم عودة الأصول إلى دوائر الفساد".

لم تحصل روزنة حتى تاريخ نشر المادة على رد من "شيربا" حول إمكانية توفر معلومات لديها، عن آخر مالك لأثاث قصر رفعت الأسد في فوش، والقصر كذلك، وماهية الأصول المصادرة التي قدرت المحكمة قيمتها بنحو 90 مليون يورو في فرنسا.

اكتملت عملية بيع القطع بأسعار تفوق المعروض. على سبيل المثال: لوحات تعود لأواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر، واحدة منها لخوليوس نويل تحمل توقيعه، بيعت بـ15 ألف يورو بدلاً من 2 إلى 4 (السعر الأولي لها)، وثانية زيتية لباول فيسشر بـ17 ألف، وثالثة لأندريه بوريل بـ17 ألف.

حصل مالك القطع "المجهول" بنهاية المزاد، على نحو 3.3 مليون يورو، حسب موقع le quotidien de l'art، واستلم المشترون الجدد، المرايا الضخمة والثريات ومزهريات تحمل شعارات نابليون الأول وطاولات الكونسول الإيطالية المذهبة واللوحات الاستثنائية من القرن الثامن عشر وغيرها، وبينها طقم الطعام المذهب الخاص الذي يحمل الأحرف الأولى من اسم رفعت الأسد "rea".

يمكن الوصول إلى أسعار القطع النهائية عبر موقع شركة المزادات.

مصدر الفيديو صفحة دار المزاد https://www.facebook.com/AderNordmann/videos/512899594268350/

مصدر الفيديو صفحة دار المزاد https://www.facebook.com/AderNordmann/videos/512899594268350/

Item 1 of 1

مصدر الفيديو صفحة دار المزاد https://www.facebook.com/AderNordmann/videos/512899594268350/

مصدر الفيديو صفحة دار المزاد https://www.facebook.com/AderNordmann/videos/512899594268350/

بالدليل.. محتويات المزاد تعود لقصر رفعت الأسد

عمل معد التحقيق على مقاطعة صور لقطع أثاث عرضت في المزاد العلني وأخرى تظهر في صور لرفعت الأسد بقصره في جادة فوش.

جميع النتائج، التي نضع عينة منها، تثبت بما لا يجعل مجالاً للشك أن الخمسمئة قطعة الفاخرة، كانت في قصر رفعت يوماً، مع عدم القدرة على تحديد الجهة الأخيرة المالكة لها.

تمثال ظهر في بداية مقابلة لقناة "بي بي سي" مع رفعت الأسد نشرت في 4 نيسان 2012 بيوتيوب. يوجد في صالة العرض وبالكتيب في الصفحة 16 و17.

التثمال الذي يمثل شخصية نسائية تدعم مزهرية رخامية بالبرونز المذهب وتعود لحقبة نابليون الثالث، قدرت قيمته الأولية بين 30 إلى 50 ألف يورو.

صورة غلاف الكتيب الخاص بالمزاد لدرج القصر بـ"درابزين" مذهب أسود، وهو قد ظهر ببداية تقرير "بي بي سي" أيضاً.

صورة لوكالة أسوشيتد برس في مكتب رفعت بقصر فوش، تظهر في خلفيتها لوحة "من المدرسة الهولندية" توجد في الصفحة 47 من كتيب المزاد، قدرت قيمتها الأولية بنحو 4 آلاف يورو.

صورة لوكالة أنباء غربية، تظهر رفعت أمام لوحتين وكرسي أثاث وخزانة عرض، توجد في الكتيب بالصفحات 49 و69 و240.

ذات الكرسي ظهر في مقابلة رفعت مع قناة "بي بي سي".

أما الكرسي الظاهر في مقابلة رفعت مع قناة "CHANNEL 4" فيوجد ضمن غرفة الطعام في الكتيب صفحة 35.

يزعم محامي رفعت الأسد، إيلي حاتم، في تصريح لـ"middle east eye" أن المقتنيات في المزاد تعود للطابق الثالث من قصر فوش، الذي تملكه واحدة من طليقات رفعت.

لنفي الادعاء، أجرينا تحليلاً لواجهة البناء وصور لغرف المعيشة والطعام والنوم الظاهرة في القصر الذي بيعت محتوياته في المزاد.

بمقارنة أجزاء معمارية ظاهرة بالصور (سور الحماية للشرفات وشكل النوافذ والأبواب الخارجية والفضاء الخارجي المحيط بالبناء)، تثبت النتائج أن البيع كان لمحتويات القصر بطوابقه المختلفة.

مهندس تصميم داخلي أعطى لـ"روزنة" تصوراً تقريبياً لمكان تواجد بعض الغرف وفق الطوابق.

ما الذي نعرفه عن أملاك رفعت في باريس؟


بإطلالة على برج إيفل ومئات الأمتار فقط عن قوس النصر وسط العاصمة باريس، يقع قصر رفعت الأسد السابق في جادة فوش الفاخرة. القصر الذي اتخذه رفعت سكناً له في فرنسا وأجرى العديد من اللقاءات المصورة فيه وعرضت محتوياته للبيع مؤخراً في مزاد "ADER" العلني.

تبقى المعلومات غير مؤكدة، إن كان "قصر فوش" من بين الأصول العقارية المصادرة، كما أشارت بعض التقارير، أو أن رفعت تمكن من بيعه قبل إصدار الحكم ضده.

مختصون أكدوا لـ"روزنة" أن مقطع الفيديو والصور التي نشرتها دار البيع من داخل القصر، حديثة وليست قديمة. ما يعني أن القصر لم يفرغ من محتوياته عند قرار المصادرة.

أشارت معلومات سابقة إلى بيع رفعت الأسد للقصر في بداية 2013، بنحو 70 مليون يورو، حسب تقرير لـ"التلغراف".

خلال بحثنا في المصادر المفتوحة، ظهر رفعت الأسد في الشهر التاسع من عام 2013 مع قناة "شانيل 4" البريطانية، من قصره في فوش، أي بعد أشهر من نشر خبر البيع.

صحيفة "لوموند" الفرنسية، قالت في تقرير سابق إن عملية البيع هذه لم تتم، إذ أن المبلغ المقدم من مشترين روس منخفض للغاية (70 مليون يورو)، مقابل 90 مليون مطلوبة، في ظل اهتمام مشترين روس وسعوديين بقصر رفعت الأسد.

توجه معد التحقيق إلى محيط القصر مساءاً، قبل أيام، لمعاينة وضعه الراهن وإن كان يسكنه أحد. الطوابق مهجورة والعتمة تخيم على البناء وسط الأجواء الباردة، ولا شيء يشير إلى الحياة فيه سوى ضوء ينبعث من نهاية النفق المؤدي إلى موقف السيارات.

القصر الفخم الذي يتألف من سبع طوابق وبإجمالي مساحة يفوق 1500 متر مربع، يقع في الدائرة السادسة عشرة، رقم 38 بجادة فوش التي يعتبرها خبراء العقار الأغلى في باريس.

تقول "لو موند" نقلاً عن صحفي في "ليبراسيون"، أن القصر تسكنه واحدة من زوجات "الأسد" الأربع، وهو معروض للبيع منذ عام 2009، ومسجل باسم شركة في مارابيا بإسبانيا، حيث يمتلك رفعت عقارات واسعة.

توجهنا بسؤال لجمعية "شيربا" عن "قصر فوش" وإذا كانت من بين الأصول المصادرة، خاصة أن قيمته تعادل تقريباً كامل المبلغ المعلن عنه لجميع الأملاك المصادرة (90 مليون يورو) في قرار المحكمة سنة 2020.

مزرعة بيسانكور.. رجال رفعت المسلحون قرب "حاسوب فرنسا النووي"


على أطراف غابة في بلدة بيسانكور بمحيط باريس، كان رفعت الأسد يملك عقاراً ضخماً تقدر مساحته بنحو 45 هكتاراً، يشمل على فيلا (قلعة) ومسبح داخلي واسطبل للخيول وسكن لنحو 90 شخصاً من حاشيته. 

"بعد فترة وجيزة من انتخابي في 2001، حذرتني معلومات عامة من هذا الوضع (...) نصحوني بتركه وشأنه (رفعت) وعدم السعي وراء الكثير من النزاعات. لكننا طلبنا أن يكون حراسه المسلحون حذرين، فقد أخافوا المتنزهين"، هذه شهادة رئيس بلدية بيسانكور السابق جان كريستوف بوليه، لصحيفة "لا غازيت دو لواز" في 2013.

ويتساءل رئيس البلدية حينها عن كيفية السماح لرجل متهم بارتكاب مجزرة بمدينة حماة عام 1982، من الاستقرار على بعد مئات الأمتار فقط من قاعدة تافيرني-بيسانكور الجوية، والتي كانت تؤوي حتى عام 2006 قيادة العمليات الخاصة، وفيها "الحاسوب النووي لرئيس الجمهورية".

بدوره، أشار قاضي الصلح الأول في بيسانكور أن رفعت دعم العديد من الجمعيات في المدينة، لضمان الهدوء وعدم اهتمام أحد بعقاراته، مع تعالي بعض أصوات السكان المحليين المعترضة على أنشطة حاشيته.

صادفنا خلال بحثنا، ادعاء "اليوتيوبر" ماثيو مايوت دخوله خلسة في أوائل 2019، إلى قصر رفعت المهجور بغابات بيسانكور، إذ نجح بتصوير مسبح داخلي وفشلت محاولاته بالدخول للقصر، كما أظهر المقطع وجود سيارات مهجورة وساكنين ببناء مجاور، يعتقد أنهم من حاشية عم بشار الأسد.

يذكر أن سوار وسومر رفعت الأسد، أكدا في تصريحات سابقة أن مزرعة الخيول "هبة سعودية لوالدهما"، فيما أشار مصدر من حاشيته، أنها هدية لزوجة رفعت، من أختها المتزوجة بالملك السعودي السابق عبدالله بن عبد العزيز، فيما يقول القضاء الفرنسي أن أصوله من "خزائن الدولة السورية".

أرض رفعت الفاخرة التي سكنتها الجرذان لعشرين سنة؟!


قطعة أرض فارغة في الدائرة السادسة عشرة، عند زاوية شارعي هنري هاين وياسمين، مهجورة بالقمامة وتسكنها الجرذان لعشرين سنة، ولا يستطيع مجلس البلدة السيطرة عليها.

المالك للأرض، حسب اثنين من أعضاء المجلس: رفعت الأسد.

بعد تحريك الملف والمطالبة بمصادرة الأرض، قدم رفعت رخصة في آذار 2013 ، لبناء سكن راقٍ من ستة طوابق وثلاث عشرة شقة على مساحة 2360 متراً مربعاً، وفقاً لجمعية حماية وتعزيز باريس التاريخية.

اثنان من المسؤولين المنتخبين اليمينيين ، لورانس دريفوس (اتحاد الحركة الشعبية) وديفيد ألفاند (المنشق عن اتحاد الحركة الشعبية)  حاولا قبل نحو عشر سنوات دفع الدولة لملاحقة الأصول العقارية لآل الأسد في فرنسا. يعبر "ألفاند" عن دهشته لعدم وجود تجاوب وتفاعل مع دعواتهم.

لم تنجح محاولة رفعت، بعد أن صادرت بلدية باريس 16 الأرض بقرار من المحكمة في 2015، وافتتحت مؤخراً 34 وحدة سكن اجتماعي في الأرض الواقعة بأحد الأحياء الأكثر رقياً غرب باريس.

يصرح نائب العمدة: "يا لها من فرحة، إنه مبنى له تاريخ خاص، أصبحنا مالكاً لهذه الأرض القاحلة عن طريق المصادرة".

فرنسا وإسبانيا ولندن.. إمبراطورية عقارية مليارية!

لا تقتصر أملاك رفعت الأسد في فرنسا على الأصول التي ذكرت أعلاه، فهناك بناء في جادة الرئيس كينيدي وآخر في شارع سيترون وقصر في جادة لامبيلا بباريس، إضافة لمكاتب في مدينة ليون، هذا فقط ما كشف عنه حقوقيون وتقارير صحفية، بتقديرات إجمالية تقدر بنحو 160 مليون يورو.

بإطلالة على نهر السين، وفي حي راق بالدائرة 16، يصطحب سوار الأسد صحافياً من قناة "BFM TV" الفرنسية في جولة بمنزله الذي يقيم فيه عند زيارة فرنسا قادماً من بريطانيا.

أشار تقرير لصحيفة "ليبراسيون" أن ثروة رفعت الأسد الإجمالية في أوروبا، تقدر بنحو مليار إلى ملياري يورو: "لدى رفعت الأسد حسابات بنكية في جبل طارق ونيقوسيا، وغيرهما من الأماكن التي توصف على أنّها جنّات التهرب الضريبي في العالم".

وتكشف الصحيفة نقلاً عن الادعاء أنّ "رفعت يملك ثروة لا تقلّ عن مليار يورو، وذلك بعد ثبوت ملكيته لشركةٍ قابضة في لوكسمبورغ، وعدد من الممتلكات الأخرى تتوزّع على ليشتنشتاين وبنما وكوراساوا".

إضافة لذلك صادرت إسبانيا نحو 500 عقار لرفعت الأسد قيمتها نحو 700 مليون يورو اشتراها بـ"مكاسب غير مشروعة"، كما تشير تقارير لممتلكات في بريطانيا ولوكسمبورغ وسويسرا، عبر شركات وهمية مسجلة بأسماء أبنائه وزوجاته.

من أين له كل هذا؟

لم يخرج رفعت الأسد (85 عاماً)  من تلقاء نفسه من سوريا، وإنما بطلب من حافظ الأسد، كما يروي رئيس الوزراء الليبي السابق عبد السلام جلود الذي كان شاهداً على تفاصيل خروجه من سوريا آنذاك.

جلود تحدّث خلال لقاء مصور مع "فرانس 24" نُشر في شهر تموز الماضي، عن الدور الذي لعبه من أجل تسهيل خروج رفعت الأسد من سوريا في الثمانينيات.

ليبيا دعمت سوريا بمبلغ قيمته 200  مليون دولار أميركي، من أجل تقديمه إلى رفعت الأسد للخروج من سوريا، بعدما طلب الأخير هذا المبلغ لقاء خروجه مع عائلته المؤلفة من 48 فرداً.
عبد السلام جلود رئيس الوزراء الليبي في عهد القذافي

وطلب حافظ من جلود عند زيارته لدمشق، إقناع رفعت بمغادرة البلاد من أجل تجنيبها الدمار، وهو ما وافق عليه الأخير مقابل تيسير رحلة إلى الاتحاد السوفييتي ومبلغ مالي بقيمة 200 مليون دولار أميركي، وهو ما حصل.

من جانبها، تقول النيابة العامة في فرنسا، إن ثروة رفعت الأسد جاءت من خزائن الدولة السورية، وتعتقد  أنه استفاد من أموال، وافق شقيقه حافظ الأسد على الإفراج عنها مقابل نفيه، مستندة على ذلك إلى ملاحظات وضعها مصرف سويسري، والميزانية السورية في ذلك الوقت وشهادات.

و استند الادعاء إلى شهادات بينها لنائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام؛ قال فيها إن حافظ الأسد دفع 300 مليون دولار لشقيقه عام 1984، كطريقة للتخلص منه بعد محاولة الانقلاب الفاشلة ضده، وجاء ثلثا المبلغ من ميزانية الرئيس والثلث الباقي كان قرضاً من ليبيا.

"رجال" رفعت الأسد نقلوا عربات محملة بالنقود من البنك المركزي إضافة إلى ممتلكات ثقافية.
الادعاء الفرنسي يتوافق أيضاً مع ما قاله وزير الدفاع السوري الأسبق، مصطفى طلاس

وأضاف شاهد آخر للمحققين الفرنسيين أن رفعت الأسد سرق "كنزاً بقيمة كبيرة" من أرض يملكها جده في سوريا، في حين رفض رفعت الأسد الاتهامات واعتبرها محاولات من خصومه للتخلص منه.

رفعت الأسد وأبناؤه ومحاموه يقولون إنّه جمع ثروته من مساعدة مالية "مستمرة وهائلة" كان يمنحها له العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز منذ أن كان ولياً للعهد وحتى وفاته عام 2015.

يقول رفعت إنه غادر سوريا دون أن يملك شيئاً، وأعطى كل ما يملك حينها للفقراء، فيما تشير شهادات لسياسيين سوريين إلى أن "سرايا الدفاع" التي كان يرأسها كانت تتمتع بصلاحيات واسعة وميزانية مفتوحة.

يزعم أيضاً أنه رجل سياسي لا يهتم بأملاكه وليس على اطّلاع على الاستثمارات "يجلبون لي الأوراق لأوقعها. لا أعرف كيف أدفع الأموال. حتى تلك الخاصة بمصاريف المطعم".

لكن محكمة الاستئناف الفرنسية شككت في هذه الحجة بعد الاستناد إلى تسجيلات هاتفية تكشف أن محاسباً كان يطلع رفعت الأسد "بانتظام" على وضع أملاكه العقارية.

وقدم محامو رفعت الأسد مستندات تثبت تلقّيه أربع هبات سعودية: الأولى في العام 1984 والثلاث الأخرى بين عامي 2008 و2010، ولم يحتفظ القاضي الفرنسي إلا بالهبة الأولى وقيمتها 10 ملايين دولار، فيما رأى أن الهبات الـ 3 الأخرى متأخرة جداً لتبرر ثروة تم جمعها في الثمانينيات.

العدالة المتأخرة المنقوصة.. ورفعت الهارب إلى سوريا

بعد نحو ثلاثين سنة من الإقامة في أوروبا، متنقلاً بين ثروته في سويسرا وبريطانيا وفرنسا وإسبانيا، وتسهيلات لإقامته مع حاشيته ومنحه وسام جوقة الشرف الفرنسي، جاءت العدالة الأوروبية "متأخرة ومنقوصة" على حد وصف حقوقيين، ولم تمنع كل المحاكمات والمصادرات لأصوله والاتهامات الموجهة له، من عودته إلى سوريا أواخر 2021.

تشير التقارير الحقوقية إلى أن غالبية أملاك رفعت الأسد في أوروبا، سجلت بأسماء زوجاته وأبنائه وشركات لهم.

في 2017، وبعد تأخير لسنوات نظرت المحاكم السويسرية، بشكوى قدمتها المنظمة غير الحكومية "ترايل إنترناشيونال" ضد رفعت الأسد، بتهمة ارتكاب مجزرتين في الثمانينيات بسوريا، وأصبح بذلك يكنى "بجزار حماة"، مع تقديرات تشير لمسؤوليته المباشرة عن قتل بين 10 إلى 40 ألف سوري خلال أيام.

وقالت المنظمة أيضاً، إن رفعت الأسد عمد في 1980، إلى قتل ما بين 500 و1000 معتقل في سجن تدمر العسكري سيئ الذكر. وجاء ذلك كحركة انتقامية استهدفت مساجين عزلاً، على خلفية تعرض شقيقه حافظ لمحاولة اغتيال نجا منها بأعجوبة.

بدروها، تجاهلت السلطات الفرنسية لسنوات طويلة تقارير وتساؤلات عن ثروة رفعت الضخمة "غير المشروعة"، لتفتح تحقيقاً حولها في نيسان 2014، بعدما أثارت المسألة مجموعتا "شيربا" و"الشفافية الدولية".

وبعد عامين من التحقيقات، وجهت إلى قائد سرايا الدفاع السابق، تهم بالتهرب من الضرائب واختلاس أموال عامة، ووضعت السلطات الفرنسية يدها على أصول تعود لرفعت، ليصدر لاحقاً الحكم بالسجن لأربع سنوات بحقه.

أما إسبانيا، فأعلنت المحكمة العليا فيها بـ2019 أنها تتجه لرفع دعوى قضائية بتهمة غسل الأموال ضد رفعت الأسد، ذلك بعد مصادرتها قبل عامين لعقارات تتجاوز قيمتها 600 مليون يورو، يعتقد أنها مرتبطة به.

بريطانيا هي الأخرى، صادرت عقارات لرفعت الأسد ورفضت منح جنسية لواحدة من زوجاته الأربع وثلاثة من أبنائه.

يعيش صاحب الإمبراطورية العقارية إذاً أيامه الأخيرة في سوريا التي وصل إليها دون عراقيل كبيرة، وسجل آخر ظهور له مع حفيدته وعائلته هناك، في قصر يبدو أنه لا يقل فخامة عن أملاكه في أوروبا.

ومع هروب رفعت من العدالة الأوروبية، وعيش عدد من أبنائه وزوجاته في بريطانيا وفرنسا، تبقى أسئلة الشابة السورية الحاضرة للمزاد معلقة دون أي إجابة واضحة: "ما الذي سيقوله التاريخ عن ثلاثين سنة ملكية عاشها الجزار في أوروبا؟ ما حجم المُصادر فعلاً من أملاكه؟ وهل يشهد السوريون يوماً محاسبة حقيقية والعدالة كاملة.. غير منقوصة!".