وجباتٌ بطعم الموت
كيف تحولت مساعداتٌ شمالي سوريا لسمّ قاتل؟
إعداد الصحفي: محمد أمين ميرة - تصاميم: دليار علي
وجبة غذائية إغاثية قد تتحول إلى سم قاتل، لأسباب تبدو متعددة ومعقدة، بفعل ظروف الحرب وحالة الفقر، والإقامة ضمن منازل وبنى تحتية تفتقد بالأساس لمعايير السلامة الصحية.
وفي هذا التحقيق تسلط روزنة الضوء على الأسباب الخفية وراء حالات التسمم الأخيرة، التي تكررت شمالي سوريا، بخاصة ضمن المخيمات، وما وراء ذلك من ظروف صعبة يعيشها السكان، والتي أدت لعدم مبالاتهم من المخاطر الصحية، جراء حالة الجوع والانشغال بالبحث عما يبقيهم على قيد الحياة.
حالات تسمم متكررة
حالات تسمم متكررة سنوية وأسبوعية، تجري ضمن المخيمات أبرزها مخيم بن سريع الواقع في سلقين غربي إدلب ذو البيوت الطينية أواخر نيسان/أبريل الماضي، وفق شهادة أحد مسؤوليه أمير الحسن.
آنذاك أصيب نحو 50 طفلاً تتراوح أعمارهم بين 12 و13 عاماً بحالات تسمم، حسب الحسن الذي أكد لروزنة بأن "الأسباب غير معروفة ولم يجر التحقيق بشكل جدي في الحوادث أو الكشف عن ملابساتها".
مسؤول مخيم بن سريع، رأى أن "هناك العديد من المغالطات في البيانات الرسمية، تنافي حقيقة ماحصل، أبرزها ما نقل حول الأسباب الرئيسية لحالات التسمم في الشمال السوري".
"رواية الدفاع المدني السوري وفريق منسقو الاستجابة في نيسان/أبريل الماضي، أكدت أن حالات التسمم التي جرت في مواقع مختلفة في ريف إدلب ومنها مخيم بن سريع، تعود لفساد وجبات مقدمة من المنظمات الإغاثية، بسبب سوء حفظها مع ارتفاع درجات الحرارة، وانعدام الكهرباء وأبسط وسائل التبريد"
مصادر التسمم
"حالات التسمم قد ترجع لعدة مصادر: وجبات فاعل الخير، أطعمة أخرى قدمها سكان المنطقة، العصائر الملوثة، المياه التي ربما تلوثت بالصرف الصحي أو بالقوارض التي تنهش أحياناً التمديدات والأنابيب"، أوضح أمير الحسن لروزنة.
اشتكى مسؤول المخيم من "معاناة سكانه من المنازل الطينية الترابية الرطبة، التي تكاد تنعدم فيها وسائل التهوية، ما يؤدي لفساد الأطعمة ويسبب أمراضاً تنفسية لعموم قاطنيها، فضلاً عن تهديدات بانهيارها جراء العوامل الجوية بعد شتاء طويل وصعب واجهته المنطقة برمتها".
إداري مخيم بن سريع، أكد في حديثه لروزنة على أهمية القيام بتحقيقات جادة ترقى إلى خطورة الوضع، من خلال أخذ عينات من الأطعمة والمصابين بحالات التسمم، للوصول إلى الأسباب الحقيقية وراء ذلك، والعمل على حلها لا سيما وأن خطر اختلاط مياه الصرف الصحي بمياه الشرب لا يزال قائماً.
استبعد مسؤول مخيم بن سريع أن تكون الوجبات المقدمة السبب المباشر للتسمم
دور الجمعيات والمنظمات
تعتمد المنظمات معايير عديدة ومتنوعة لحفظ المواد الغذائية، وقد يكون التقصير في الالتزام وتطبيق تلك المعايير سبباً في تسمم وفساد بعض الحصص والوجبات، لا سيما تلك التي تكون بالأساس منخفضة الجودة، وفق موظف جمعية الخيرات الإنسانية ياسر وتي.
ذكر وتي بأن حالات التسمم تحصل عادة إما من وجبات الطعام أو اللحوم، التي قد يتأخر المتبرع في توزيعها.
وأضاف ياسر على سبيل المثال: "يجهز المتبرع الوجبة صباحاً ويوزعها عصراً وهذا يسبب فساداً في الأطعمة وكذلك الحال بالنسبة للحوم التي يتم التأخر في تسليمها".
"أحياناً لا تؤخذ الاحتياطات اللازمة لحفظ اللحوم خلال عملية توزيعها، فلا توضع ضمن سيارة خاصة مبردة أو على الأقل بوجود ألواح من "البوظ" فوقها منعاً لفسادها" وفق ياسر.
ينطبق ذات الأمر حسب موظف جمعية الخيرات على مادة "الكريم ثوم" التي توزع مع الوجبات أيضاً، فالحرارة تؤثر فيها إذا تأخر توزيعها.
إدارات المخيمات بشكل عام غير مسؤولة عن تخزين المواد الإغاثية أو طريقة حفظها، وإنما تقوم بإبرام عقد أو مذكرة تفاهم وتنسيق أعداد المستفيدين لضمان توزيعها للفئات الأكثر احتياجاً وفق مدير مخيم بن سريع، الذي أكد أن فاعلي الخير فقط (مبادرات متبرعين) هم من قدموا تلك المساعدات لمخيمه ومناطق مجاورة خلال الأشهر الماضية التي جرت فيها حوادث التسمم.
مسببات تلف المواد الغذائية
خالد الرفاعي في مؤسسة أفق للإغاثة ذكر بأن مسببات فساد الوجبات الغذائية واللحوم بالدرجة الأولى سوء التخزين من المورد المصدر.
"في تلك الحالة يجب على القسم اللوجستي التأكد وفحص المواد المستلمة من المورد بشكل جيد قبل استلامها ونقلها إلى ملاك المنظمة" ذكر الرفاعي لروزنة.
أضاف منسق مكتب سوريا في مؤسسة أفق أن النقل الخاطئ للسلع في درجات حرارة مرتفعة يؤدي أيضاً إلى فسادها.
ومن الضروري حسب الرفاعي اختيار وسيلة نقل مناسبة كالبرادات المتنقلة لنقل اللحوم ووجبات الطعام.
حفظ المواد بشكل خاطئ يسبب تلفها وفسادها، وتنشيف اللحوم دون تبريدها مع درجات حرارة مرتفعة قد يسبب التلف بنسبة كبيرة أردف منسق أفق.
الرفاعي لفت إلى ضرورة الانتباه لآلية تغليف المواد واللحوم، وخصوصاً الوجبات المطبوخة وتلك المغلفة بأكياس نايلون والتي تكون أكثر قابلية للتلف في حال تعرضها للحرارة.
أعراض التسمم
خليل أحد قاطني مخيم بن سريع، روى لروزنة ما جرى مع ولديه عبيدة (13 عاماً) ويوسف (12 عاماً) متحدثاً عن إصابتهم بحالات تسمم بعد مكوثهم وتناولهم للطعام المقدم ضمن مسجد خلال شهر رمضان الماضي.
واجه عبيدة ويوسف إلى جانب المصابين حالات إسهال وفقدان للوعي مع دوخة وحساسية وسخونة لكنه ذكر بأن أسباب ما حصل بقيت بالنسبة له مجهولة.
وفي نحو سبعة مواقع أخرى غير مخيم بن سريع توزعت ذات الوجبات ولم يحصل التسمم إلا ضمن المخيم، وفق أمير الحسن، معتبراً أن ذلك "يدحض مسألة أن تكون الوجبات أو سوء حفظها السبب المباشر لحالات التسمم، لا سيما أن التحقيقات والبحث في القضية لم يكن جاداً ودقيقاً" حسب وصفه.
بحسب ما ذكره الدفاع المدني السوري لروزنة فإن "النساء والأطفال كانوا النسبة الأكبر بين المصابين، وعانت بعض الحالات من مضاعفات أدت لتقديم الرعاية الطبية المركزة لها وتنوعت الأعراض بالإعياء و الإقياء وارتفاع الحرارة والإسهال مع تقلصات معوية".
آلية حفظ وتوزيع الأغذية من منظمات الشمال السوري
ياسر وتي وهو موظف في جمعية الخيرات الإنسانية أكد أن الحصص الغذائية لا تبقى في مستودعات الحفظ أكثر من شهر، وخلال تلك المدة تقدمها المنظمات للمستفيدين.
ولحفظ تلك المواد ومنعاً لفسادها تضعها الجمعيات عادة في مكان مرتفع عن الأرض ولا تدخله الشمس حسب وتي.
لكن الداعمين حسب موظف جمعية الخيرات يقدمون أحياناً حصصاً غذائية منخفضة الجودة، لذا تحاول المنظمات أن لا تتعرض تلك المواد للعفن أو الرطوبة أو أي عارض قد يفسدها.
وفق ياسر تقوم المنظمات والجمعيات العاملة بتقديم المواد الغذائية بشكل شهري بوضع مواد لمنع اقتراب القوارض والحشرات من المستودعات.
منسق مكتب سوريا في مؤسسة أفق الدولية للإغاثة والتنمية (مقرها تركيا) خالد الرفاعي يرى في حديثه لروزنة أن لكل مادة طريقة مخصصة بالحفظ والتخزين.
ويقوم بالإشراف على تلك المهمة في أفق قسم المراقبة والتقييم لضمان حفظ المواد الغذائية او غير الغذائية بالشكل الأمثل وضمان وصولها إلى المستفيدين بجودة عالية.
وبالنسبة للوجبات المطبوخة واللحوم أضاف الرفاعي أنها لاتحفظ في مستودعات إنما يتم نقلها مباشرة من الموردين إلى برادات نقل تحفظ المواد من التلف طيلة فترة توزيع اللحوم والوجبات المطبوخة على المستفيدين.
وفي حال الاضطرار إلى تأجيل عملية التوزيع يتم حفظ المواد في برادات كبيرة مشغلة على مدار ال24 ساعة لحفظ المواد من التلف، وفق منسق أفق للإغاثة.
تعتمد أفق للإغاثة حسب الرفاعي على سياسات محددة ومكتوبة للتخزين وحفظ المواد، كما تجري تدريبات مهنية بهذا الخصوص، ويساهم ذلك بشكل كبير من تقليل احتمالية تلف المواد بنسبة كبيرة.
ماذا تقول السلطات الصحية؟
المناطق التي وقعت فيها حوادث التسمم وتتكرر فيها بشكل فردي حتى الوقت الحالي، تقع عسكرياً تحت سيطرة هيئة تحرير الشام، وهناك تبسط "حكومة الإنقاذ" نفوذها الإداري عليها وعلى محافظة إدلب وريف حلب الغربي.
تعد مهمة مراقبة صلاحية المواد الغذائية من اختصاص المديرية العامة للتجارة والتموين التابعة لحكومة الإنقاذ العاملة في مدينة إدلب وريفها الشمالي.
ومن المفترض أن تقوم تلك المديرية بالتدقيق في صلاحية المواد، والتأكد من أنها ضمن تواريخ الصلاحية من مواد غذائية ولحوم وبقوليات ووجبات غذائية تقدمها المطاعم.
وزارة الصحة لدى حكومة الإنقاذ قالت في بيان لها بتاريخ 25 نيسان/أبريل الماضي، إنها فتحت تحقيقاً في حوادث التسمم، وأرسلت لجنة إلى عدد من المراكز الطبية للبحث في أسباب الحالات الواردة.
ونقل بيان الوزارة عن مدير أحد المخيمات، التي شهدت تلك الحالات (لم تحدد هويته أو اسم المخيم) قوله إن "الوجبات الغذائية المقدمة كانت سليمة بدليل أن الأطفال الذين تناولوا منها فور وصولها لم تظهر عليهم أعراض التسمم".
درجات الحرارة في إدلب تجاوزت أواخر نيسان/أبريل الماضي 30 درجة مئوية وهو ما يؤدي لفساد الوجبات الغذائية الموزعة على النازحين، وتلك الحالات تكررت في صيف السنوات الماضية وفق ما تقوله مديريات الصحة والدفاع المدني.
بعد عناء كبير، تمكنت روزنة من التواصل مع مسؤول الرعاية الأولية في مديرية صحة إدلب "دريد الرحمون" الذي أكد أن أسباب التسمم التي حصلت أواخر نيسان الماضي، ترجع لوجبات فسدت بسبب سوء حفظها أو تخزينها في ظل عدم توفر وسائل تبريد وارتفاع درجات الحرارة.
وأضاف الرحمون لروزنة: "رصدنا قرابة 100 حالة تسمم ضمن أكثر من 20 مخيماً وتم توجيه الدفاع المدني والإسعاف لنقل المصابين وعلاجهم ومتابعتهم حتى تخريجهم من المشافي" مشيراً إلى عدم الحاجة لتحقيقات جنائية في تلك الحوادث بسبب وضوح الأسباب.
مخيمات الشمال السوري - مواقع التواصل
مخيمات الشمال السوري - مواقع التواصل
استجابة المنظمات الإنسانية
عبر أمير الحسن عن هموم أبناء المخيمات بقوله: "الناس تهمل مخاطر التسمم مقابل السعي لتأمين لقمة عيشها ومأوى وحياة كريمة لأبنائها" وينقل بحرقة قلب عبارات ربما رددها الكثير من الأهالي والنازحين: "سممني بس طعميني".
"الاحتياجات أكبر من قدرة الاستجابة" هذا ما نقله مراسل روزنة في إدلب عبد الغني العريان عن منظمات إغاثية عاملة شمال غربي سوريا.
يحتل الطعام رأس هرم المساعدات الواصلة إلى المنطقة، فيما يؤكد فريق منسقو الاستجابة في سوريا، بآخر بياناته حرمان أكثر من 2 مليون نسمة من المساعدات الغذائية.
لفت الفريق في آخر تقاريره إلى انقطاع دعم مادة الخبز في أكثر من 650 مخيماً وحرمان أكثر من مليون نسمة من الحصول على الخبز بشكل يومي، وخاصةً مع انقطاع مادة الخبز المدعوم منذ عدة أشهر.
تشتكي الكثير من المخيمات بمحيط مدينة سلقين من قلة وأحياناً غياب المساعدات الغذائية عنها، كمخيم الجمعية الواقع وسط سلقين، والصفصافة والتآخي وبن سريع الطيني غربي إدلب.
تعمل عشرات المنظمات على الاستجابة لاحتياجات المخيمات في أطراف سلقين كمنظمة غول الإيرلندية ومنظمتي RC و Ihh وجميعها تقدم حصص غذائية ضمن برامجها، لكن مساعداتها توصف بالشحيحة ولا تتناسب مع حجم الاحتياجات وفق ما يقوله بعض سكان المنطقة.
"في مواقع عودة النازحين لم تقدم المنظمات الإنسانية حتى الآن أي مشاريع حقيقية بسبب اعتبار تلك المناطق خطرة ولا يمكن العمل بها" بيان منسقو الاستجابة 18 نيسان/أبريل 2022
الموظف في جمعية الخيرات الإنسانية ياسر وتي ربط بين قلة المساعدات والموقف السياسي الذي وصفه بالمتراجع تجاه القضية السورية، وهو ما أثر على ملفات النازحين واللاجئين وفق ما ذكره لروزنة.
تقدر مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، وجود حوالي 2،7 مليون نازح من أصل 4 ملايين نسمة في إدلب، يحتاجون إلى المساعدة الإنسانية، مع تجاوز معدل الفقر 90 في المئة، فيما زادت الأعباء مع تضاعف الأسعار عالمياً إبان الحرب الروسية على أوكرانيا.