في سوريا.. الصحافة مهنة بطعم الخوف والحاجة

في سوريا.. بات جميع الصحفيين والعاملين في حقل الإعلام في سباق لتحصيل لقمة العيش من مهنة "لم تعد تطعم خبزاً".. منهم من ترك المهنة كلياً، أو جعلها ثانوية إلى جانب عمل إضافي، أما الأكثر حظاً وهم قلة، فيعمل مع وسائل خارج سوريا بأسماء مستعارة غالباً.

الصحفيون العاملون في الصحف السورية المحلية أو المؤسسات الإعلامية التابعة للحكومة، حالهم كحال الموظفين في باقي القطاعات، إذ لا يتجاوز دخلهم الشهري الـ 150 ألف ليرة سورية أي أقل من 20 دولاراً، في حين لا تقل حاجة الأسرة وسطياً عن 1.5 مليون ليرة أي نحو 180 دولاراً.

والحال ينطبق على العاملين في المؤسسات الخاصة التي اقتصرت على عدد من الإذاعات والمواقع الإلكترونية ومحطة تلفزيونية، إذ تراجعت معدلات الرواتب بشكل كبير خلال السنوات العشر الأخيرة، ولا يتجاوز راتب الصحفي الـ 50 دولار شهرياً.

أسماء الصحفيين والصحفيات الواردة في هذه المادة مستعارة لاعتبارات أمنية

مغادرة مهنة الصحافة بهدوء هو الحل!

علي 45 عاماً، يعمل في الصحافة منذ أكثر من 20 عاماً، قرر تقديم استقالته من عمله كمراسل لصحيفة حكومية في حمص.

ويُرجع علي سبب الاستقالة إلى تدني الأجور، والمحسوبيات في توزيع المكافآت بحسب الولاءات ولمن لهم "ظهر" وسند لدى أصحاب القرار، والقادة العسكريين والأمنيين.

علي غير نادم على قرار الاستقالة من العمل بمهنة "ما بتطعمي خبز لا سياحي ولا مدعوم حتى"، بل على العكس ممتن لذلك القرار الذي دفعه إلى الاشتراك في مشروع خاص، لاستثمار مطعم للوجبات السريعة.

في كل عام يتخرج المئات من الشباب في كلية الإعلام بجامعة دمشق والكليات الإعلامية الخاصة، لكن قلة قليلة منهم من يجد عملاً في الحقل الصحفي، والباقون التحقوا بأعمال خاصة أو وظائف حكومية، أو لا يزالون يبحثون عن فرصة هنا وهناك.

وانخفضت إيرادات الصحف والدوريات من الإعلانات في سوريا، بعد توقف إصدارها ورقياً منذ نحو 3 سنوات، واقتصر النشر على المنصات الإلكترونية، حيث لا تستفيد من إعلانات من محركات البحث الدولية وفي مقدمتها "غوغل" لأنها ممنوعة في سوريا.

العمل مع وسائل إعلام خارج سوريا.. حلول التفافية رغم المخاطر!

لا يوجد قرار معلن من النظام السوري بمنع تعامل الصحفيين مع وسائل إعلام بعينها، في وقت يعتبر الإعلام في سوريا قطاعاً أمنياً بامتياز، والجهات الأمنية هي الوحيدة والمسؤولة عن متابعة خطه التحريري.

وكانت وسائل الإعلام السورية العامة والخاصة تتبع للمجلس الوطني للإعلام ما بين عامي 2011 و2016، ليعود مرة أخرى لوزارة الإعلام في دمشق، بعد إلغاء المجلس الوطني للإعلام.

بعد عام 2011، أُطلقت العديد من وسائل الإعلام السورية خارج سوريا المستقلة عن سلطة وتحكم النظام السياسي والجهات الأمنية.

ويخشى الصحفيون المقيمون في مناطق سيطرة النظام السوري العمل مع وسائل الإعلام السورية خارج سوريا لأسباب أمنية.

وعلى الرغم من المخاطر المترتبة على عمل الصحفيين في الداخل مع وسائل إعلامية سورية تعمل في الخارج، يجد صحفيون أنفسهم مجبرون على العمل مع تلك الوسائل ولو بأسماء وهمية، أملاً في تحقيق دخل مادي جيد.

ويحاول صحفيون في الداخل التعامل مع تلك الوسائل والكتابة في مواضيع سياسية أو اقتصادية واجتماعية، وبالمقابل يحصلون على دخل يصل إلى 50 دولاراً للمادة، وعلى افتراض كتابة 4 مواد شهرياً يحصل الصحفي 200 دولار.

مجرد انتقاد السلطات أو الحكومة هو إضرار بهيبة الدولة!

أصدر رئيس النظام السوري بشار الأسد في آذار من عام 2022، قانون "الجريمة المعلوماتية"، ونص على عقوبات تتعلق بالمحتوى الرقمي في المواقع الإلكترونية والحسابات الضخصية والصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي.

واعتبرت منظمات حقوقية، أن القانون أداة جديدة لقمع حرية التعبير وكم الأفواه، ومنح تبرير للاعتقال التعسفي بحجة "النيل من هيبة الدولة" أو من "هيبة الموظف العام".

ويؤكد منتقدو القانون أنه يعطل حرية الرأي والتعبير، ويشكل خطراً على المواطنين من كل ما ينشر من تعليقات أو منشورات، فيما اعتبرت الحكومة أن القانون ينظم الحريات منعاً لانتشار الجريمة.

وتنصّ المادة (28) من قانون "الجريمة المعلوماتية"، على "المعاقبة بالسجن من 3 إلى 5 سنوات وغرامة من 5 ملايين إلى 10 ليرة سورية، كل من قام بإحدى وسائل تقانة المعلومات بنشر أخبار كاذبة على الشبكة من شأنها النيل من هيبة الدولة أو المساس بالوحدة الوطنية".

ممكن بيع جهدي مقابل لقمة العيش!؟

يخفف الدخل المادي، شعور الخيبة لدى رنا، صحفية تعمل من دمشق، بعد قبولها وضع اسم شخص آخر على مواد صحفية تكتبها مقابل 100 دولار عن كل مادة.

ولا تخفي رنا إحساسها بالخيبة والغبن، لأنها لم تستطع تحقيق حلمها بأن يكون لها اسماً في عالم الصحافة، وتضيف "التخلص من حالة العوز المادي الملاحقة للصحفيين شكل تعويضاً لي على الأقل حالياً".

ندى صحفية من طرطوس، سجلت كما تقول "رقماً قياسياً" في عدد المواقع الإلكترونية التي تعمل بها، إذ تعمل باسم مستعار مع 6 مواقع إلكترونية بواقع نحو 16 ساعة يومياً، لتحصل على دخل شهري لا يزيد عن 135 دولار، ومع ذلك لا يغطي ما تحصله الحاجة الوسطية لأسرة لسورية.

ويتبع الصحفيون في مناطق النظام طرقاً وأساليب تقنية، تحميهم من الاختراق والملاحقة من الأجهزة الأمنية التابعة للنظام السوري.

الأسماء المستعارة ضمنت لكثيرٍ من الصحفيين في سوريا، النجاة من ملاحقات واعتقال من سلطات الأمر الواقع، وكذلك من ضغوط اجتماعية وبخاصة للصحفيات، تحت حجة العيب وأن المهنة صعبة على النساء ولا يمكن تحمل أعبائها إلا الرجال.

تقلص الاهتمام بالشأن السوري زاد من أعباء الصحفيين

في السنوات الخمس الأخيرة، خفضت الوكالات الصحفية ووسائل الإعلام السورية والأجنبية، عدد المراسلين المعتمدين لتغطية الأحداث في سوريا.

وتقلص الطلب على الإنتاج الصحفي في سوريا، بالتزامن مع الهدوء الحاصل بعد سنوات من العمليات العسكرية.

يوسف يعمل مراسلاً صحفياً شمالي سوريا، يقول إن الأجر الشهري من العمل الصحفي لا يكفي لتأمين حاجات المعيشة الأساسية، ويبقى امتلاك منزل أو سيارة "حلماً" من دون العمل في مهنة ثانية.

ويبلغ وسطي دخل الصحفي في مناطق شمالي سوريا الخارجة عن سيطرة النظام السوري، 250 دولار شهرياً، غير أنه لا يغطي تكاليف المعيشة، إذ أن الخدمات والمواد في أسواق تلك المناطق تسعر بالليرة التركية وتقارب مثيلها في تركيا.

الحوالات تنقذ الصحفيين.. وحلم السفر يراود معظمهم

حال الصحفيين في سوريا لا يختلف عن باقي السوريين في الداخل، إذ ينتظرون معونات مالية من أقاربهم خارج سوريا، للاستعانة على تكاليف المعيشة.

ولا يوفر معظم الصحفيين في داخل سوريا أي جهد في الحصول على فرصة للسفر خارج سوريا، أو على الأقل إيجاد فرصة للعمل الصحفي عن بعد مع وسائل خارج بلدهم.

وعلى توزع الجغرافية السورية، يبقى التضييق على الحريات الإعلامية هو عامل مشترك، وتحتل سوريا المرتبة 171 ضمن مؤشر حرية الصحافة في منظمة "مراسلون بلا حدود" من أصل من 180 بلداً، لعام 2022.