
في مديح الوحدة.. ولكن!
ولاء عوّاد
أنا وحيدة وسعيدة، جملة افتتاحية استخدمتها بكثرة مؤخراً، تحديداً في الأشهر الثلاثة الأخيرة، ولربما كانت تعبر عن الشعور الوحيد الذي رافقني طوال هذه الفترة.
عندما اختبرت وحدتي امتلكت الجرأة لأعلن للجميع أنني سعيدة بها، لا أبكي كغيمة، ولا اضطر أن أعانق وسادة خالية، ولا استحضر الماضي ولا أخاف المستقبل.
ولكن فاتني أن أخبركم أنني لست وحدي ربما كما تخيّلتم الآن، فأنا لديّ أصدقاء، وعائلة.
ربما كان علي أن أوضح لكم أني لست منعزلة أو معزولة، ذلك أن مجتمعاتنا تلصق فعل العيش وحيداً/ةً بالكآبة والانهيار العاطفي والعجز والحاجة.
فالوحدة خطر بنظر المجتمع، وإذا ما كنتِ صغيرة عزباء ستجدين من يقول لكِ "حرام شبابك عم يضيع ع الفاضي" وإذا كنت أماً "مطلّقة" ستجدين في نظرات الناس وأنفاسهم شفقةً حول صعوبة حياتك، وطفلك/تك التي ستكبر مع أمّ وحيدة.
أنا بحاجة إلى رجل في حياتي حتى ولو تشاركنا فقط فنجان قهوة!
رغم خيارنا بالعيش وحيدين و قناعتنا به، لكن يبقى البعض منا يبحثون عن إجابات وجودية حول هذه القرارات.
ستحتفل آلاء وهي ممرضة تعيش في إسطنبول بعيد ميلادها الأربعين بعد عدة أيام، ولكنها على عكسي، لا تخفي حزنها كونها حتى الآن لم تجد من يؤنس وحدتها. و يبقى السؤال المرافق لـ ليلها ونهارها: هل خيارنا بالوحدة سينهش أعمارنا بهدوء وصمت؟ أم أنهـا أحد الخيارات التي قد تحمينا وسط جنون هذا العالم.
تقول آلاء: "أحتاج لأن أجلس في مقهى مع أحدهم، حتى لو لم يكن مثالياً أو كاملاً، أنا امرأة وبحاجة رجل في حياتي، فأنا وحيدة الفراش، ولا فنجان قهوة مشترك، ولا حضنٌ في المساء".
أحتاج لأن أجلس في مقهى مع أحدهم، حتى لو لم يكن مثالياً أو كاملاً، أنا امرأة وبحاجة رجل في حياتي، فأنا وحيدة الفراش، ولا فنجان قهوة مشترك، ولا حضنٌ في المساء

تحت مسمى العيب تخنق مشاعر الصبايا، تقول آلاء: "الوحدة قاتلة، وفوقها ممنوع نحكي أو نعبّر، لأننا بنات ناس، ويقابل بوحي وكلامي حول حالتي بالشفقة أحياناً، وبوصمي بأني قليلة الكرامة أو الحياء، وعندما أقول أنني بحاجة إلى رجل، إلى شريك عاطفي، إلى شخص يأخذني مشوار أو إلى الطبيب، وكأنني أتعرى أمام الناس، صحيح أن جزءً من عائلتي معي ويعوضون وحدتي، لكن عندما ينامون أنا وحيدة لا أستطيع أن أنكر هذا".
التهمت الحرب 10 سنين من حياة الشابات السوريات، بين هروب ونزوح ولجوء، وتضاعفت المسؤولية على الشباب السوري وانهارت طموحاتهم، و ازدادت المسؤوليات.
"الوحدة لا تؤثر على نفسيتي فقط، بل تؤثر على شكلي، وجسدي، فأنا أعاني اضطراب في قولوني أكاد أجزم أن سببه هذه الوحدة فقط".
لا تعرف آلاء أسباب واضحة لوحدتها، وتضيف: "لا أعرف ماذا حصل للشباب اليوم، ينتظرون منا المبادرة، وأن نخطبهم، وأن نقدم مالنا وجسدنا ومنزلنا دون أن يكون لديهم أي التزام أو مسؤولية ـ ربما يكون هذا السبب الرئيسي وراء بقائي وحيدة".
بعد عشرين عام قررت أن أعيش وحيدة على أن أكون بحكم الميتة في زواجي.
قبل أن أكمل.. ربما تلح علينا الرغبة في الإجابة عن سؤال: لماذا قد يختار أحدنا أن يكون وحيداً، تحديداً بلا شريك، كيف يستيقظ أو تستيقظ إحدانا وتقرر إنهاء علاقة ربما دامت لسنوات - وهناك من يبحث لسنوات عن من يشاركه حديث الصباح فقط- كيف هناك من تحمّل آلام الانفصال، وهدم سنوات من البناء والتعب على علاقة ما بالمعنى الحرفي للجملة؟
قرار الانفصال ليس موضة، ولا تتحمل السوشيال ميديا المسؤولية كما يدعي البعض، ولا هي عدوى تستوجب ارتداء كمامات على المشاعر والعيون والقلب والطموح، كي نحمي أنفسنا من شرّ الوحدة؟
رغم وجود أطفالي وعائلتي من حولي لكنه لا يعوّض حاجتي لوجود شريك عاطفي، إلا أن تجربتي مع الوحدة أفضل من وجود شريك لا أشعر بوجوده

هدى (ب) وهي سيدة أربعينية قدمت مؤخراً إلى إسطنبول، فضلت عدم ذكر اسمها كاملاً، تقول: "لم أجد في حياتي الزوجية أماناً ولا دعماً ولا تقبّل، فاتخذت قرار الانفصال بعد قرابة عشرين عاماً من الزواج".
حاولت بعد الانفصال إشغال نفسها حتى تهرب من إحساس الوحدة: "كسر شعور الوحدة مرير جداً بعدم وجود شريك في الحياة، لكن أمور كثير لجأت إليها وشغلت نفسي بها مثل، كممارسة بعض الهوايات واللجوء للدراسة والعمل".
قرار الوحدة ليس نهائياً بالنسبة لهدى، وتضيف: "لن أتنازل هذه المرة عن أن يكون شريكي متفهماً وأن يعاملني ككيان مستقل غير تابعة له، ومستعدة لأن أبكي كل يوم من وحدتي العاطفية، وأن أجد في كل مرّة شيء يلهيني، على أن أكون بحكم الميتة مع شريكي.
وأضافت: "رغم أنه حتى وجود أطفالي وعائلتي لا يعوّض حاجتي لوجود شريك عاطفي، إلا أن تجربتي مع الوحدة أفضل من وجود شريك لا أشعر بوجوده".
أعلن خوفي من الوحدة وحاجتي لشريك على الملأ مهما كان الثمن
قد لايخطر على بال القارئ أن يكون الجمال أو التعليم الدراسي قيداً أومسبباً للوحدة، ويحول حياتها إلى منطقة عسكريّة مبوبة بعنوان "ممنوع الاقتراب".
ويصبح إذا ما قررت أن تتحدث عن حاجتها إلى كسر وحدتها، تقابل عادة بردود تطلب منها سراً وعلناً أن تكتفي بالنِعم التي لديها.
الصحفية والإعلامية نور الهدى مراد، تقول" مساوئ الوحدة تختلف من شخص لآخر، فأنا مثلاً بحاجة للمشاركة، أن أشرب القهوة مع شريك، أن نسافر معاً، نتحدث معاً، ففي بعض الأوقات يمرّ يوم كاملٌ لا أسمع فيه حتى صوتي". وأسوأ ما في الوحدة هـو الخوف من أن نكبر وحدنا.
لا يقتصر ألم الوحدة على نفسية الإنسان فقط، فأجساد الوحيدين/ات تصاب بارتفاع ضغط الدم وتدني القدرات العقلية، وكذلك تسبب شيخوخة أسرع، وضعفاً في المناعة، فهم/نّ مستعدون دائماً لهجمة أسدٍ أو شبحٍ قد لا يأتي أبداً، منهكون دون قتال.
لا أجد لذّة في طعامي وأحارب الوحدة بالتنظيف

تنهش الوحدة من الأجساد وليس فقط الأرواح، فهي تزيد من برد الجدران على أحمد،فهو يعتقد أنّ جودة طعامه السيئة، وآلامه الجسدية التي يعيشها، سببها الوحدة حسب رأيه.
وعبّر عن هذا الموضوع بقوله "الوحدة تؤثر على شهيتي، أريد أن أتناول وجبتي مع أصدقاء، مع ناس غيري، ينقصني وجود أي مشاركة مهما كان نوعها، فأنا بلا أصدقاء ولا عائلة إلا عبر مكالمات الفيديو وليس لدي حبيبة".
أكسر وحدتي بتنظيف البيت، ليس هناك شيءٌ آخر أستطيع فعله.
الانخراط في علاقة مستقرة، خاصة في حياتنا اليوم، أحد المصادر الأساسية للتفاعل والدعم الاجتماعي، كذلك وجود الأصدقاء والعائلة، وعلاقات ذات جودة حتى ولو كانت قليلة، وفي ظل المشاكل السوريّة التي تبدأ من لقمة العيش إلى أزمة الوجود.
وحسب الاستشارية والمعالجة النفسية تحرير صافي، فإن الوحدة هي بوابة الأمراض النفسية، ومن أحد أهم أسبابها عدم قدرة الفرد على مواجهة مشكلات الحياة، فيشعر بالضيق والفجوة الكبيرة بينه وبين مجتمعه، كما أن الاكتئاب والصمت أسباب رئيسية قد تؤدي لانعزال الشخص عن المجتمع، كوسيلة دفاعية معاكسة لفطرته، وتضيف صافي أن للوحدة تأثير خطير جداً على صحة الفرد الجسدية والنفسية، ويجب التعامل معها بشكل جدّي، والحرص على التواجد أو التواصل مع بيئة محيطة آمنة من الأهل والأصدقاء، وطلب الدعم من الأطباء أو المختصين قبل أن يخسر الإنسان ذاته.
نسعى دائماً للنجاة، وفي أحيانٍ كثيرة ننجو وحيدين ووحيدات بشكل مضمون أكثر، الفردية صحيّة إلى حدّ بعيد، واعتزال الناس بمثابة العلاج من العلاقات السامة "ديتوكس" نحن بحاجة إليه كلّ فترة، فحديث النفس والتواصل معها لا بدّ منه سعياً للتوازن وحب الذات، كما أن الفردية مهمّة كونها موقفنا الأخلاقي من كلّ شيء، والاستقلال قيمنا، لكن لا أحد يستطيع نكران حاجة السوريّ "على وجه الخصوص" لـ وليف أو ربيع أو صديق أو شريك وعائلة صغيرة تعوّض غياب من لا نستطيع إليهم سبيلاً.