المغيّبون قسراً "لسه ما رجعوا"... 130 ألف قصة حزن

باسكال صوما

ما زال أكثر من 130 ألف معتقل ومغيب قسراً مجهولي المصير، معظمهم في سجون النظام السوري، فيما يقبل الآخرون في مظالم "داعش" وغيره من الفصائل المسلحة المشاركة في الحرب السورية. ولمناسبة حلول يوم المعتقلين والمغيبين قسراً في 30 آب، يوجّه فريق "روزنة" تحية لجميع المتروكين في العتمة ولعائلاتهم، عبر بودكاست "لسه ما رجعوا" لتوثيق 5 من قصص المعتقلين الكثيرة. لعلّ سرد المآسي مرّة تلو الأخرى يوجّه صفعة إلى العدالة الدولية لوقف النزيف ومحاسبة المسؤولين عن تدمير حياة آلاف الشبان والشابات وتشتيت عائلاتهم.

عن ستة أطفال كبروا في السجن

في 9 آذار 2013، اعتُقل عبدالرحمن ياسين من منزله في حي مشروع دمر في دمشق. وفي 11 آذار أي بعد يومين تحديداً، أتى رجال النظام مجدداً واعتقلوا زوجته رانيا العباسي مع أولادها الستة والسكرتيرة التي تساعدها وهي مجدولين محمد فارس القاضي. 

هكذا بلا أي رحمة، قضى النظام على مستقبل عائلة كاملة، قرر مصيرهم عنهم وزجّهم جميعاً في المجهول والعتمة.

تقول نائلة (شقيقة رانيا) لـ"روزنة" إن رانيا وأولادها الـ6: "ديمة (14 سنة)، انتصار (11 سنة)، نجاح (9 سنوات)، ولاء (9 سنوات)، أحمد (4 سنوات)، والطفلة الرضيعة ليان، اعتقلوا من بيتهم في دمشق، وحتى اليوم لا معلومات موثوقة لدى العائلة عنها سوى خبر عن وجودها في بداية اعتقالها في فرع الأمن العسكري، وخبر آخر عن نقلها مع أولادها إلى سجن صيدنايا، لكنه خبر غير موثوق"، وأشارت أيضاً إلى أن زوج رانيا كان بين الضحايا الذين سرب "قيصر" صورهم للإعلام، لكنهم ما زالوا غير واثقين بهذا الشأن، إلى حين إجراء المقابلة.

رانيا محمد عيد العباسي هي طبيبة أسنان وبطلة سوريا والعرب في الشطرنج، من مواليد عام 1970، كانت تقيم في توسع مشروع دمر في دمشق. وكان النظام كرّمها في وقت سابق تنويهاً بالبطولات التي حققتها، إلا أنه غيّر رأيه وقرر عام 2013 تدمير حياتها بهذه البساطة التي يفلح بها دائماً، بساطة تدمير حياة الآخرين.

رانيا طبيبة أسنان محبوبة، يعرفها أهل منطقتها ويحترمونها، كما تقول شقيقتها، واصفةً النظام بالـ"بلا ضمير".

أما أسامة العباسي وهو شقيق رانيا فيصف معاناة العائلة الطويلة منذ لحظة الاعتقال وحتى اليوم، مطالباً بتحقيق العدالة، وتوضيح مصير رانيا وأولادها بعد سنوات الاعتقال المضنية.

لكنّ أصوات استغاثات عائلة العباسي وغيرها من عائلات المعتقلين والمخفيين قسراً، ما زالت تُقابل بالآذان الموصدة والتأجيل والمراوغة، وكأنّ تلك المأساة تأبى أن تنتهي. لكنّ رجاء العائلة الوحيد يبقى في العدالة الانتقالية وعودة رانيا إلى حياتها سالمة، مع أولادها وزوجها.

"نحن لسنا العار!"

"رسالتي إلى الناس أن يعرفوا أننا لسنا سبب معانتهم، لسنا سبب الحرب التي يعيشونها، ولسنا العار، نحن ضحينا بأنفسنا من أجل سوريا الحرّة"، تقول هدى أمهان (36 سنة) وهي معتقلة سابقة وزوجة معتقل حالي لدى النظام السوري هو يوسف أمهان (44 سنة).

كانت هدى موظفة في مكتب وزير الصناعة وكان زوجها يعمل في قيادة دمشق. في الشهر الثالث من عام 2012، تم توقيف زوجها، حين كان عمر ابنتهما لا يتجاوز السنتين والأربعة أشهر. القصة لم تنتهِ هنا، إذ تم استدعاء هدى إلى التحقيق في نيسان 2015، والسبب كان أن  زوجها ذكرها في تقريره على أساس أنه كان يستقي منها معلومات كونها تعمل في مكتب وزير.

بعد 16 يوماً من التوقيف والتعذيب، استطاعت أن تخرج وتمضي 6 أشهر في الاقامة الجبرية، بعدما دفعت مبلغاً كبيراً من المال. 

بعد ذلك حاولت أن تحصل على حرية زوجها أو تتقصى أخباره، إنما كحال الكثير من أهالي المعتقلين، هدرت سنوات عمرها في الانتظار. كانت زارته عام 2014 في سجن صيدنايا، وحين حاولت أن تزوره ثانية قيل لها إنه لم يعد هناك، وبعد خروجها من المعقل عادت إلى المحاولة، فكان الجواب "إنسي هذا الاسم، وانسي هذه القضية". يريد النظام كدائماً جعل النسيان أمراً متاحاً وعادياً حين يتعلّق الموضوع بجرائمه ضد الإنسانية.

لجأت هدى إلى أهل زوجها لمساعدتها هي وابنتها، إنما قوبلت بالرفض، "لا نريد معتقلة سابقة في بيتنا". وكان على هدى أن تجرّ حزنها وخيباتها من مكان إلى آخر برفقة ابنتها، إلى أن عادت إلى جسر الشغور وهو المكان الذي ولدت فيه في شمال سوريا. حاولت أن تجد وظيفة لكن الأمر لم يكن سهلاً، فنظرات العار كانت تطوّقها، باعتبار أن المعتقلات يتعرّضن لاعتداءات جنسية في السجون، وهو أمر يدفعن ثمنه، حتى إذا لم يتعرّضن للاغتصاب وهو ما تؤكده هدى. بدل مساعدتهنّ وخلق بيئة حاضنة تعينهنّ على النهوض مجدداً، يعمل المجتمع على تدميرهنّ حين يعدنَ إليه وكأنّ تجربة الاعتقال وحدها لا تكفي. 

قررت هدى في النهاية أن تعود إلى الدراسة وتواصل عملها المدني في ملفّ المعتقلين. تؤكّد مرة تلو الأخرى أن هذا الملف هو قضيتها، ولن تتخلّى عنها... نسألها عن أحلامها تقول: "أن أعيش وابنتي بسلام وأن أرى سوريا حرّة والسجون فارغة من الأبرياء".

تروي هدى معاناتها في المعتقل وخارجه وفي انتظار زوجها، يرتجف صوتها كثيراً وهي توجّه له رسالةً عبر "روزنة"، تقول: "أنا عملت كل شي حتى ساعدو بس ما قدرت، وهو بيعرف"، وتضيف: "بتمنالو الحرية والخلاص".

"عندما تعود سوريا ستعود يا ولدي"

"سؤالين ومنردو عمو"، هكذا قال عناصر من "تنظيم الدولة الإسلامية"، لأبو عيسى ليلة 15 نيسان 2014. سؤالان تحوّلا إلى وجع لا ينضب في قلب عائلة خلف الغازي التي تنتظر حتى الآن عودة الفتى الذي كان عمره 17 سنة يوم أخذه الخفافيش وتواروا به. الآن أصبح عيسى رجلاً، لا نعرف ملامحه "لكنه أكيد ما تغيّر" يقول والده لـ"روزنة".

"أنا ما غادرت سوريا، ما غادرت الرقة، باقي هون حتى يرجع ويلاقيني". فعلى رغم هذا المسار الطويل من الخيبات، ما زالت العائلة تتمسّك بأمل أن يكون عيسى ما زال حياً، "لو قتلوه كانوا جابولي جثتو، إخفاء دم البني آدم حرام في الإسلام"، يعزي الوالد نفسه.

عيسى كان ناشطاً إغاثياً في الرقة ومتطوّعاً في "الهلال الأحمر"، كان يساعد الجرحى والمدنيين واللاجئين. اختار "داعش" شاباً طموحاً يحبّه الجميع ويحترمونه. قبل أن يذهب إلى امتحان الباكالوريا في القامشلي مع والدته بأسبوع واحد، وفيما كان غارقاً بين الكتب والأوراق، راسماً أياماً تشبه براءته وأحلامه، أتى جنود "الدولة" وضعوه في السيارة وأقفلوا بابها...

لم يترك أملاً أو خبراً أو أثراً عن ولده إلا ولاحقه، مؤكداً أنه وزوجته وبناته الثلاث، لم يفقدوا الأمل ولم يتوقفوا يوماً عن الانتظار. 

قيل لهم إن عيسى الصغير أصبح في سجن سري لا يعرف تفاصيله إلا أبو بكر البغدادي، وقيل لهم إنه في جامعة الموصل، ثم إن "الدولة الإسلامية" لن تتخلى عنه لأنه شاب ذكي ويعرف في أمور التكنولوجيا والكومبيوتر، ويفيد مشاريع التنظيم. 

يروي الأب تفاصيل سنوات القهر، مشيراً إلى أنه "ذاكرة الرقة ومختارها"، ثم يضيف "مجازياً". "خبرت كل ما مرت به المنطقة، أعرف شوارعها وحزنها، أعرف قصصها، إنها قضيتي كما أن حريّة عيسى قضيتي".

على صفحة خلف في "فايسبوك" توثيق لوجعه الطويل، رسائله إلى ابنه تقطّع القلب، كتب في إحداها "حين تعود سوريا، ستعود يا ولدي".

ويعمل مع مجموعة من الأهالي على رابطة تتابع قضايا المخفيين قسراً، وتحاول التواصل مع الجهات المعنية للمطالبة بحريتهم، كالأمم المتحدة والمحكمة الدولة. يؤكد أن لا حرية لهؤلاء الشبان والشابات ولكل السوريين، سوى بالحلّ السياسي في سوريا، حتى ينجلي الظلم، ويفوح الياسمين مرة أخرى.

"إن كان حقاً مات فأين جثته؟"

لم تكن معاناة مع الاعتقال، بل مع الخطف، وهي مسألة تتجاوز آلام الاعتقال، كما يقول الصحافي الكردي مسعود حامد، عند سؤاله عن أخيه المخطوف منذ عام 2014، عند استخبارات وحدات حماية الشعب YPG، وفق المعلومات التي توصلت إليها العائة، لكن لا شيء أكيد. تعتمد العائلة على الأخبار التي تأتي من هنا وهناك. "في الاعتقال، هناك تحقيق وقضاء ومحاكمة وسجن، أما الخطف فهو دخول في المجهول والآلام التي التي تطاق يوماً بعد يوم، سنة بعد سنة"، يوضح مسعود.

تنتظر أم أمير المريضة وفتياته الأربع ووالدتهن والأخ المنهك عودة أمير و"إن جثة" يقولها مسعود بغصة، مضيفاً: "إن كان حقاً قد مات، فأين جثّته؟ نريد أن نراها لمرة واحدة".

ولا يمكن إغفال قلب أم أمير في سرد الحكاية، فهذه المرأة واجهت اعتقال ابنها الأول عند النظام لثلاث سنوات، ولوحق أخوها في وقت سابق، والآن ابنها مفقود ولا تعرف شيئاً عن مصيره. تدهورت صحتها في سني الانتظار، ولم يسمع وجعها أحد.

خُطف أمير من حضن عائلته بجرم الحرية، والحرية في هذه البلاد جرم يستحق العقاب. اختفى أمير الناشط المدني والسياسي المجتهد، وكان قبلها اعتقل عام 2011، حين كان مدير المكاتب الإعلامية للحراكات الشبابية والمنسق بينها، وكان من أوائل المتظاهرين ضد النظام السوري. 

أخوه الذي يروي لنا سني المعاناة، كان أيضاً معتقلاً في وقت سابق، لكنه يقول صراحة إنه يتمنى لو كان هو مكان شقيقه الآن: "انتظار المجهول أصعب ما قد يمرّ به المرء. الاعتقال أسهل مما نعيشه عائلتي وأنا".

"أخبرنا بناته الحقيقة. لن نكذب عليهنّ. بيعرفوا انو أبوهن بطل ومناضل، وعم ينتظروه ليرجع شي يوم".

اختطف أمير من مدينة الدرباسية التابعة لمحافظة الحسكة من داخل بيته، واختفى وتوارت أخباره. عائلته تعيش الآن مع والدته في مخيم قوشتبة القريب من مدينة إربيل في كردستان العراق، فيما يصرّ مسعود على البقاء في داخل سوريا على رغم المخاطر والصعوبات، وذلك بهدف واحد، محاولة الوصول إلى معلومات عن شقيقه، "هذه قضيتي، لا يمكن أن أتخلى عنها".

"كل المعتقلين قضيتي"

فرّق النظام السوري أمل وحبيبها، سيّر حكايتهما كما يشاء، واعتقل جهاد محمد عام 2013، تاركاً زوجته أسيرة الأسئلة والبحث عن الحقيقة.

الكثير من الألم يحمله صوت أمل التي تحاول أن تتماسك، وأن تبدو أقوى من القهر وأقوى من البكاء. تحاول المرأة بعد 9 سنوات من اختفاء زوجها أن تبقى قوية كما عرفها وأن يبقى رأيها حراً وصوتها عالياً. فجهاد (53 سنة، من ريف دمشق، القلمون) صحافي قبل أي شيء، وهو الآن معتقل رأي لمعارضته النظام ومطالبته بحقه وحق الشعب السوري في الحرية والحياة. والنظام في طبيعته يعادي كل ما له علاقة بالحرية وأيضاً بالحياة، يجنّد آلة قتله واعتقالاته لكبح أي مطالبة بهذين الحقين.

تروي أمل معاناتها وتريد أن تحمّل كلماتها معاناة جميع نساء المفقودين والمعتقلين لدى النظام وغيره من الجهات. تقول: "لم تعد قضيتي عودة زوجي وحسب، أصبحت أطمح لتحقيق العدالة لجميع المعتقلين ومشاركة أهالي الضحايا هذا الوجع الطويل، لا سيما نساء المعتقلين والمخفيين".

وتضيف لـ"روزنة": "لا يمكن أن تتصوري حجم معاناة زوجة المعتقل، إنها محرومة من حقوقها الاجتماعية والقانونية وتعاني اقتصادياً أيضاً. حتى إنها لا تستطيع السفر أو الحصول على أموال زوجها أو ميراثه والقصة تزداد تعقيداً في حال وجود أطفال، وفي حال كان الزوج هو المعيل الوحيد. هذا غير معاناتها الشخصية نفسياً، إذ تتأرجح بين مشاعر منهكة كالقلق والخوف والوحدة والاكتئاب، وهو أمر بالغ الصعوبة".

وتتابع مازحة: "أوقات بشكر ربي انو ما عنا ولاد أنا وجهاد، تما يتعذّبوا"، تضحك من كثرة الألم، ثم تؤكد أنها ستواصل النضال حتى تحقيق العدالة.

غادرت أمل سلامات سوريا بحثاً عن سبيل للحياة في تركيا، إلا أنها من هناك تواصل عملها التطوعي في خدمة قضية المعتقلين، مع رفاقها من أهالي المفقودين. حين نسألها إن كانت تؤمن حقاً بيوم تتحقّق فيه العدالة، تجيب بسرعة الواثقين: "أكيد". ثم نسألها عن رسالتها للنظام، فتجيب: "ما بدي قلوا شي. بس بدي قول لأهالي المعتقلين، خلينا متضامنين لنحقق العدالة ونحصل على حقنا".