غش الذهب السوري يضرب الداخل ويتخطى الحدود

"لم أعرف أنّ ما أحمله في يدي ليس ذهبًا، كنت مضطرة للمال، وقررت بيع (إسوارتي) التي اشتريتها قبل نزوحي من حلب بعدة أعوام" بهذه الكلمات وصفت السيدة "عفراء- ح" ما حصل معها أثناء ذهابها لبيع اسواراتها الذهبية.

تفاجأت عفراء بردة فعل الصائغ، الذي يقع محله في حي كرا تاش بمدينة عينتاب جنوب تركيا، حينما أخبرها أنّ الإسوارة ليست ذهبية، أذابها أمامها بالنيران، وأخبرها أنها مجرد قطعة حديد لا أكثر.

كلام السيدة "عفراء" قادنا في "روزنة" للبحث عن قيام بعض التجار بـ"غش الذهب"، والتلاعب بأعيرته.

 وخلال التحري الذي أجريناه عبر التواصل مع عدد من الصاغة السوريين في مناطق متفرقة من سوريا وتركيا تأكدنا من قيام بعض التجار بغش الذهب.

تعمل ورش الذهب على الغش بعدة طرق  إما عن طريق التلاعب بالأعيرة، وبيع القطع ذات عيار "18" على أنها من عيار "21"، أو من خلال ضرب المعدن الأساسي والاستعاضة عنه بخلطة من المعادن تصبح أقرب إلى الذهب الأصلي.

وقد يلجأ البعض إلى تزوير كامل القطعة؛ ويبيعها على أنها ذهب، وهو ما يشير إليه صاحب أحد محال الذهب في حي كرتاش بمدينة غازي عينتاب، إذ يقول من أغرب قصص "غش الذهب" أن "إمرأة طلبت مني وزن قلادتها الذهبية؛ من أجل بيعها، إذ بلغ وزنها نحو 50 غرامًا، وبعد حرقي للقطعة تبين أنّها مزورة وأنها مصنوعة من النحاس بشكلّ كامل".

سوق الذهب - ادلب

سوق الذهب - ادلب

صاحب إحدى كبرى شركات بيع الذهب في حلب، فضّل عدم نشر اسمه، يقول لـ "روزنة" إنّ "الحرب أفرزت عددًا من أصحاب ورش تصنيع الذهب من خارج أبناء الصنعة، يقومون في بعض الأحيان بالتلاعب بالأعيرة، وضخها في الأسواق الخارجة عن سيطرة النظام من أجل بيعها والاستفادة من فروقات الأسعار فيها".

الصائغ، الذي طلب عدم نشر اسمه، يشير إلى كشفه لحالات تزوير  قطع ذهبية متعددة من قبل بعض الناس العاديين الذين أرادوا بيعها له، لكنه في ذات الوقت لا يؤكد أو ينفي بوجود ورش وعصابات تقوم بتلك بامتهان تزوير المعدن النفيس.

سوق الذهب - ادلب

سوق الذهب - ادلب

تجار الحرب  تطفلوا على المهنة

المصدر ذاته أكدّ لـ "روزنة" أنّ "جمعية الصاغة في حلب تتشدد في التعامل مع حالات الغش التي من الممكن أن تطال صناعة الذهب"، وأنّ "كل المحال الخاصة ببيع الذهب تخضع لمعايير صارمة؛ من أجل الحصول على (دمغة الجمعية)"، لكنه في الوقت ذاته كشف عن عدد من حالات الغش في أعيرة المعدن النفيس، دون أن يفصح عن أعدادها، مكتفيًا بالقول: إنها "قليلة، ولا تتجاوز أصابع اليد الواحدة". 

مصعب الأسود، وهو رئيس جمعية الصاغة في الشمال السوري الغربي ( أسست مؤخرًا)، اتهم بعض تجار الذهب في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام بـ"التلاعب في عياره؛ وتصدير كميات (مغشوشة) منه إلى أسواق الشمال"، مؤكدًا ضبط "عشرات القطع ذات عيار منخفض" (صور)، وأنّهم "قاموا بمصادرتها ومنع بيعها".

وأشار إلى أنّ "حالات الغش من قبل التجار في مناطق النظام؛ دفعت تجار المنطقة للحصول على الذهب من الأسواق التركية، أو من خلال الاعتماد على ورش خاصة في الشمال السوري".

حجم المبيعات في تركيا

 ويُقدر عددٌ من التجار ممن التقتهم "روزنة" كمية الذهب المصاغ المباع من قبل الصاغة السوريين في تركيا بنحو 100 كيلو غرام يوميًا، إذ تأتي اسطنبول في المقدمة وتسيطر على 80% من السوق، فيما تتجاوز كمية الذهب المباع بين التجار السوريين في بازاراته أكثر من 2 طن يوميًا.

سوق الذهب - اسطنبول

سوق الذهب - اسطنبول

سوق الذهب - اسطنبول

سوق الذهب - اسطنبول

سوق الذهب - اسطنبول

سوق الذهب - اسطنبول

Item 1 of 3

سوق الذهب - اسطنبول

سوق الذهب - اسطنبول

سوق الذهب - اسطنبول

سوق الذهب - اسطنبول

سوق الذهب - اسطنبول

سوق الذهب - اسطنبول

أساليب ضبط السوق

ولا يرى عمار سلو، وهو صاحب شركة (طيبة والأمل) للمجوهرات أنّ الاعتماد على الأسواق التركية هو الحل في منع التلاعب في عيار الذهب، وقال لـ "روزنة" إنّ "إمكانية غش الذهب في تركيا كبيرة للغاية ومن ثم ضخه في الأسواق السورية؛ بسبب عدم وجود جمعية تعنى بمراقبة الأسواق ومنح المعايرة".

وطالب بتشكيل جمعية في الشمال تقوم بـ "جولات مفاجئة على محال الذهب من أجل أخذ عينات من بضاعتهم للمعايرة"، وأنّ "تقوم بمحاسبة (الغشاشين) عبر كسر الذهب المغشوش وإذابته ومن ثم إغلاق المحال المخالفة".

  عدم وجود جمعية حرفية في تركيا تقيم الذهب وتضع ختمها عليه لا يجعل السوق مستباحًا من قبل "الغشاشين" إذ يشير "سلو" إلى وجود رقابة كبيرة على محال الصاغة في الأسواق التركية؛ عبر إخضاع البضائع المشكوك فيها؛ لخبراء معتمدين من قبل الدولة في المعايرة، وبالتالي من يثبت عليه (الغش) يغلق محله ويُجرم".

كيف يغش الذهب؟

لفت "سلو" إلى أنّ "عمليات غش الذهب في الغالب تتمحور حول الإنقاص من العيار ، وأوضح أنّ "عمليات الغش – في الغالب- لا تكشف إلا من خلال إذابة الذهب"، وأنّ "عمليات الغش تتفاوت ما بين 10 غرامات في الكيلو إلى نحو 100"، منوهًا إلى أنّ أكثر من يقوم بعمليات الغش هم من المتطفلين الجدد على الصنعة و المنتشرين بمختلف المدن التركية، وفي بعض الأسواق السورية".

"سلو" نفى أن "يكون هناك عيار معرض للغش أكثر من آخر"، مؤكدًا أن "طلب السوريين على عيار 21 جعل صياغته ليست محصورة بالورش السورية ودفعت عددًا من التجار الأتراك إلى العمل به"، مؤكدًا أن "لا مفاضلة بين العيارين 21 السوري أو 22 المعتمد في تركيا"، وأنّ "اقبال السوريين على الأول يأتي من دافع الاعتياد وليس من دافع المفاضلة السعرية أو القيمية"

الذهب المضروب في كل مكان

لم يقتصر "غش الذهب" على مناطق المعارضة، وإنما كشفت تقارير إعلامية موالية عن إلقاء القبض على عصابات تمتهن غش المعدن النفيس، إذ ذكرت صحيفة الوطن شبه الرسمية في عددها الصادر في 13 آب/ أغسطس 2014 أن مديرية الجمارك قبضت كميات متباينة من الذهب الكس والخام في محال الصاغة في شارع العابد في العاصمة دمشق.

في ذات العام تناقلت وسائل إعلام موالية تصريحات لـ غسان جزماتي رئيس جمعية الصاغة والمجوهرات في دمشق قال خلالها إنّ "الجهات المختصة قضت على 50 شخصًا يزورون الذهب ويبيعونه في الأسواق على أنه أصلي"، و في تصريحات له في منتصف عام 2018 قال إنهم "قبضوا على ورشة لتزوير الذهب تضخ الذهب المزيف في الأسواق منذ 7 سنوات"، مؤكدًا أن عمليات التزوير هي ممنهجة تقوم بها عصابات"، فيما لم تتوقف أنباء القبض على مزورين للذهب في دمشق وحماة وحلب حتّى الآن.

رغم عدم صدور تصريحات رسمية عن خلفية انتشار "الذهب المغشوش" في الأسواق، إلا أن الخلافات بين الجمعيات الحرفية للصاغة ووزارة المالية في حكومة النظام حول ضريبة رسم الإنفاق الاستهلاكي؛ هي لربّما أتاحت المجال للمزورين بضخ كمية من الذهب المزور في الأسواق؛ مستغلين عدم وجود (دمغة) موحدة للذهب الصاغ في المحافظة.

صورة من ورشة لتصنيع الذهب - ادلب

صورة من ورشة لتصنيع الذهب - ادلب

هجرة جماعية لحرفيي المهنة  

ولربّما أسهم في انتعاش وإنعاش عمليات تزوير المعدن النفيس؛ هجرة المئات من حرفيي المهنة إلى خارج البلاد؛ والتدمير الذي طال محالهم من قبل النظام السوري والظروف الاقتصادية الصعبة، وتراجع القوة الشرائية للمواطنين.

فالعم "ابو يحيى" (70) عامًا،  عمل في المهنة لأكثر من 50 سنة في سوق الصاغة بمدينة حلب، وكان من أبرز "معايري" الذهب فيها؛ اضطر للنزوح إلى تركيا ومن ثم إلى فرنسا بعد أن دمر محله  بالبراميل المتفجرة محله الأثري والتي استخدمها النظام السوري؛ إلى جانب عشرات المحال الأخرى في السوق، كما أنه فقد كامل ثروته من الذهب بعد أن اقتحم محله السُراق .

يرفض الحديث عن المهنة بشيء من السلبية؛ فهو الذي عشقها حتّى صارت جزءًا من روحه وذاكرته، كما أنه لا يحبذ الظهور على وسائل الإعلام للحديث عن المحنة التي ألمت به بعد أن هجر محله وخسر ثروته، ويكتفي بالقول: "الذهب ..ذهب..بعض الحرامية لا يمكن أن يصبحوا صياغ..لايعرفون قيمة هذا المعدن ولا يفرقون الجيد فيه من السيئ..ابني تعلم نحو 5 سنوات في محل صائغ آخر حتّى أتقن المهنة (حرصًا على الجدِّ في تعلمها)..وأنا ورثتها أبًا عن جد..الذهب لا يُمكن أن يُغش"

ولا يبدو أن العم أبو يحيى هو الوحيد الذي هجر المهنة والتجأ إلى خارج البلاد؛ بسبب الحرب؛ إذ  كشف رئيس جمعية الصاغة في حلب "جان بابلانيان" في تصريحات له في  أن "شيوخ الكار غادروا حلب خلال سنوات (الأزمة)؛ وانتشروا في عدد من دول العالم من كندا إلى استراليا"،  وأنّ "عدد الورشات العاملة في صياغة الذهب في حلب انخفضت من 1200 ورشة قبل (الأزمة) لحوالي 40 ورشة حالياً، ومعظمهم حرفيون دخلوا حديثاً للمهنة، ويعملون ضمن منازلهم".

الكلام عن غش "الذهب" في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام؛ دفع عددًا من التجار في المنطقة إلى تشكيل جمعية لضبط سعره وجودته في السوق، إذ يقول الأسود إنّ "الهدف الرئيسي لعملنا؛ هو وضع هيكلية ونظام داخلي يؤطر لعمل تجار ومحال وورش الذهب في المنطقة وتوثيق العاملين فيها"، وأنّ من بين دوافع تشكيلها "منع مزاولة المهنة غير المرخصين، وسن قوانين تنظم عملهم".

شروط الترخيص

وأوضح الأسود أنّ الجمعية ستُعنى بـ "منح تراخيص للتجار الراغبين بمزاولة المهنة بشروط"، والتي من ضمنها: "أوراق ثبوتية، ومعدات لوجستية (كميرات مراقبة، ميزان ذهب، شلمون،  فواتير، وغيرها"، وأنّ الجمعية اشترطت أيضًا: "حصول طالب الترخيص على تزكية من (صائغين) مرخصين لديها".

وأضاف أنّ "عدد مزاولي المهنة في الشمال السوري بلغ نحو 170 صائغًا؛ موزعين على ريفي حلب وإدلب، حاصلين على الترخيص من قبل الجمعية، وأنّها تأخذ عينات من تلك المحال وتخضعها للتحليل؛ وبناءً عليه تعطي الموافقة ببيع المنتج".

وبيّن أنّ طريقة اختبار جودة المنتج تتم "من خلال جهاز كشف معادن متطوّر بـ (الأشعة السينية)، أو عن طريق (التحليل الكيميائي)"، وأنّهم "فرضوا على أصحاب المحال وضع علامة تجارية لتميز الذهب وسهولة مراقبته".

وإلى جانب الشروط، وضعت الجمعية لائحة عقوبات لمن يقوم بمخالفتها، من بينها: "مخالفة التسعيرة والتي حددت عقوبتها للمرة الثانية بالإنذار وغرامة ألفي دولار، وفي حال التكرار سحب الترخيص".

العقوبات 

ويؤكد القائمون على الجمعية أنّ هناك تعاونًا كاملًا مع كافة السلطات المحلية في المنطقة؛ من أجل مراقبة جودة المعدن في السوق؛ وإحالة المخالفين إلى القضاء، وسط إقبال الأهالي من أصحاب الأموال وميسوري الحال على شراء المعدن النفيس في ظل تدهور ومنع التعامل بالعملة السورية، وعدم استقرار أسعار صرف الليرة التركية؛ وهي المعتمدة في أسواق الشمال السوري.
وبحسب النظام الداخلي للجمعية فإنّ من بين العقوبات أيضًا: "الغش بالوزن وحددت عقوبته في حال ارتكب للمرة الثانية بالغرامة بمبلغ عشرة آلاف دولار وإغلاق المحل لمدة شهر، فيما تسحب رخصة مزاولة المهنة في حال الإصرار على المخالفة يحال المخالف إلى القضاء"

الذهب يُعتبر الملاذ الآمن للسوريين للادخار، إذ تتفاوت حجم تداولاته بحسب المناطق التي يقيمون فيها، وذلك على الرغم من تراجع الإقبال على شرائه؛ بسبب  ضعف القوة الشرائية المترافقة مع انهيار قيمة الليرة؛ كما أن المهنة تراجعت وكادت تنحسر في عدد المناطق؛ بسبب تدمير أسواقها الأساسية كما حصل في مدينة حلب؛ فضلًا عن هجرة الآلاف من حرفييها إلى خارج البلاد.