
عوامل تحكم أوساط عينة كويرية داخل سوريا
سامي محمد
لم أعِ تماماً ما الذي تعنيه كلمة كُوير حتى بلغت العشرين عاماً من عمري، فابن الريف- كاتب هذا التقرير- لم تتوفر له المعرفة التكنولوجية ولا التجارب الجامحة حتى يستكشف هويته الجندرية أو الجنسية، وحتى تجربة تعرفه على ذاته لم تكن داخل سوريا.
بدأت بعدها الانتباه لكمّ المصطلحات والهويات المختلفة المطروحة في سياق النوع الاجتماعي، وخصوصاً عند ملاحظة الاختلافات الجوهرية في الأدوار الجندرية والتمييزات القائمة على النوع الاجتماعي والهوية الجنسية.
ساعدني الانخراط في العمل المجتمعي على بلورة الصورة التي أرغب أن أكون نشطاً فيها للتوعية عن هذه الأمور.
تقدم لنا الناشطة النسوية الفلسطينية سارة قدورة ضمن برنامجها "حكي نسوي" فرصة للتكلم عن هذا المصطلح عبر طرح تاريخي لاستخدامه ، وتستهل الفيديو الخاص بها بتعريف بسيط يقول: "الكوير كلمة تستخدم عادة لنصف أنفسنا او نصف علاقة سواء بالسياق العربي أو الغربي، وتستخدم بسياق سياسي مثل نضال كويري أو صراخ كويري".
استُخدمت الكلمة في الأدب الإنجليزي لوصف أي شخص أو عادة خارجة عن المألوف، وبشكل تحقيري بعشرينيات القرن العشرين لوصف المنحرفين/ات بمظهرهم/نّ أو سلوكهم/نّ بالنسبة للمجتمع.
ظهرت الحاجة في تسعينيات القرن العشرين إلى تغيير الخطاب من وصف الكُوير كضحية إلى وصفه جزءاً من المجتمع "أنا هنا، أنا موجود"، وتأسست منظمة أمة الغرباء "Queer Nation" في الولايات المتحدة التي وزعت خلال مسيرة فخر مناشير دعت الأشخاص لاستخدام كلمة كُوير، لتذكير المجتمع بنظرته لهم كغرباء، ومن وقتها ساد استخدام هذه المصطلحات ضمن مجتمعات الميم عين باعتبارها صفة، وفي العربية تستخدم كما هي أو كأحرار الجنس أو كغرباء.
ركزت النظرية الكويرية التي تبنتها بعض المنظّرات النسويات، على التوقف عن اعتبار الغيرية الجنسية معياراً للحالة الإنسانية الطبيعية وأن ما يشذ عنها خطأ، مع التركيز على السياق الثقافي والطبقي والعرقي.
اعتمدت النظرية الكويرية على كتابات سبقتها مثل كتابات ميشيل فوكو عن الجنسانية وكتابات سيمون دي بوفوار عن النوع الاجتماعي. طرحت هذه النظرية فكرة النمطية الغيرية وحاربتها، واعتمدت على فكرة البناء الاجتماعي باعتبار الجنس بيولوجي والجندر اجتماعي.
في كتابها المترجم حديثاً "قلق الجندر: النسوية وتخريب الهوية" والصادر في عام 2022 طرحت الباحثة الأمريكية جوديث بتلر مفهوم "الأدائية الجندرية"، الذي يصف الهوية الجندرية بوصفها سلوكيات غير فطرية ومُمارسة وعفوية بمرور الوقت، إنما إعادة تصنيع الممارسات والهويات الموجودة أساساً دون أن تنفي إمكانية تبني الشخص لنوع اجتماعي جديد أو تصحيح الهوية الجندرية، لكنها دعت إلى النظر إلى الهوية باعتبارها أعقد من ثنائية "رجل وامرأة" وكيف أن النظام الأبوي يقمع رفض هذه الثنائية ومتطلباتها من خلال أي اختلاف.
لم يتطرق الأدب السوري- كما العربي- إلى مفهوم الكويرية إلا حديثاً، لكنه تطرق لمواضيع المثلية الجنسية بشكل واضح أحياناً، ولعل أهم عمل سلط الضوء على المثلية وتعقيدات العلاقات الكويرية بالنسبة لي هو مسرحية "طقوس الإشارات والتحول" لسعد الله ونوس.
فلم يكتفِ الكاتب بتضمين شخصيتين مثليتين في القصة، بل ركز أيضاً على تأثير الذكورية والأبوية على طبيعة هذه العلاقات أيضاً، عندما امتنعت إحدى الشخصيات المثلية عن شريكها لأنه تشبّه بالنساء لقيامه بحلاقة شاربه، فما كان يسرّه أنه كان يضاجع رجلاً أو بالأحرى "يفعل به".
عاد حنا مينة ليتطرق لموضوع المثلية الجنسية بين النساء في روايته "عاهرة ونصف مجنون"، كما فعلت لاحقاً الكاتبة السورية سمر يزبك، في روايتها "رائحة القرفة"، والكاتب السوري نهاد سيريس في روايته "حالة شغف".
التفاعلات الاجتماعية في الوسط الكويري
وبالعودة إلى شكل العلاقات ونمط التفاعلات الاجتماعية ضمن الوسط الكويري السوري، تحدثنا إلى مجموعة من الأشخاص الذين يصنفون أنفسهم/أنفسهن كُويريين/كُويريات أو من أفراد مجتمع الميم عين، لتسليط الضوء على أهم العوامل التي تتحكم بطبيعة هذه العلاقات وكيف يمكن أن يكون شكلها بشكل عام من منظورهم/منظورهن.
من وجهة نظر س.ع (طالب دكتوراه 31 عاماً) وهو شاب مثليّ الجنس صنف المجتمع الكُويري إلى أربع فئات: "أولها مراهقي الكُوير، وهي الفئة الثورية التي تتحدى المجتمع للدرجة التي يشعرونك بأنك في مسير فخر عندما تمشي في باب شرقي، ويكون تحديهم صارخ وفج، وهم لا شك متأثرون بالنمط الغربي بشكل واضح.
وثانيها فئة الباحثين عن الجنس، مستخدمي تطبيقات المواعدة بهدف الجنس فقط ولا شيء غيره".
ويكمل متحدثاً عن الفئة الثالثة التي أسماها "الفئة المخفية"، وهم الأشخاص الباحثون عن علاقات حقيقية وإنسانية، باعتبار الميل الجنسي جزء من الهوية وليس ممثلاً للهوية الإنسانية بأكملها.
أما الفئة الرابعة فكانت فئة العابرين/العابرات ومن يعمل منهم/منهن في مجال "البزنس"، والذي وصفه "بتجارة الدعارة الرسمية"، إذ قد تقصدهم الطبقات المخملية ورجال الأمن والمسؤولين، أو أي شخص لا يرغب في التصالح مع كونه يمارس الجنس مع شاب، فيلجأ لممارسته مع عابرة جندرياً.
يقول ع.ح (ناشط كُويري 26 عاماً) : "إن الحالة التي يشكلها مجتمع الميم، أو الوسط الكويري داخل سوريا يمكن تسميتها مجتمعاً، لعدم وجود مجتمع كويري متجانس ولأن المجتمع العام متهتك وبحالة غير صحية، وبرأيه أن ما يسمى شبه مجتمع كويري داخل سوريا، هي مجموعة الأشخاص المعترفة بذاتها والتي تتواصل مع الكويري الآخر، ولا تتعدى نسبتها 10% من مجموع المثليين/المثليات... فهو فقط ما شكله الأشخاص من مساحة آمنة لهم/نّ ليجمعوا/ن أنفسهم/ن ضمنه".

ماذا يقول الكويريون؟
يتشارك ثلاثة كويريين/كويريات قابلناهم الرؤية حول ثلاثة عوامل مهمة تتحكم بالعلاقات الاجتماعية، ومنها العاطفية ضمن الوسط الكُويري داخل سوريا وهي: الشكل الخارجي، و المظاهر (ومن ضمنها الشعبية والمال) والجنس، على حد تعبيرهم.
ويفسرون الشكل الخارجي بما يتضمنه من صورة الجسد المثالية التي صدّرتها الميديا والبورنوغرافي، والملابس، والهيئة على تطبيق إنستغرام، والتصرفات والسلوكيات التي تظهر أمام المجتمع.
المظاهر بما فيها المال تستطيع أن تصنع لك الشكل والشعبية، أما الجنس فكاد أن يكون عاملاً حاسماً بما يتضمنه من تفضيلات شكلية وجنسية (مُعطي/Top أو متلقّي/Bottom أو كليهما/Vers أو ليس أياً منهما/Soft) كما يرونها ، لأن فئةً، كما ذُكر سابقاً، تعتبر الجنس هدفاً وغايةً في التعارف وبناء العلاقات.
يضيف أحد الكويرين (غ.ص) (30 عاماً) عاملاً رابعاً للعوامل الثلاثة السابقة، وهو "الحاجة للانتماء" كرغبة الفرد الكُويري في أن يكون ضمن وسط من الأفراد الذين يشبهونه، وهو ما يُفسر-برأيه- جزئياً نشوء علاقات "الأم وبنتا"، كأن يصبح أحد الكُويريين أماً للفرد الذي يعترف له بميوله الجنسي، فيقول له "بنتي" ويُطلق على المُحتضِن لقب "أم"، وكذلك طريقة تسمية بعض المثليين لأقرانهم بـ"أخواتي أو أختي"، فحاجة الانتماء المعقدة والتي قد تتداخل معها عوامل بيئية وأسرية ونفسية، ساهمت في بروز هذا النمط من الممارسات والعلاقات.
وفي هذا الصدد، يرى (ع.ح) ضرورة عدم الخلط بين الجنس والجندر كمفهومين مرتبطين بالهوية، ومن غير المقبول بالنسبة له استساغة الخطاب بصيغة الأنثى بين المثليين الذكور بطريقة مطلقة.
العلاقات مركبة أكثر بين الإناث أيضاً، تقول ب.ح (مزدوجة الميول الجنسية 24 عاماً): "أن العلاقات بين الإناث تحتاج حميمية متناهية، ونوع من الأمومة والعطف يسيطر على كافة الجوارح والرغبات الأخرى بما فيها الجنس، لذلك أغلب العلاقات المثلية بين النساء أو الفتيات تنشأ بين الفتاة وإحدى صديقاتها المقربات.
وتضيف: "لو تعلق الأمر بالجنس فهو أمر شبه مستحيل، لصعوبة تمييز الإناث المثليات، كما أنك لن تجد أنثى مستعدة لتغامر بالكثير من التحفظات من أجل تجربة جنسية"، الأمر الذي يمكن إرجاعه للصورة المجتمعية التقليدية لما تعنيه الأنوثة والأدوار والصفات الجندرية الملصوقة بالنساء والفتيات.
الذكورية والحداثة والازدواجية
"تحكمت الذكورية في العقود الماضية لكنها خفّت مؤخراً، وانحصرت الممارسات والسلوكيات الذكورية بالأشخاص المنتمين لبيئات مغلقة أو متدينة، وهو عامل موجود لكنه غير حاسم في علاقات الوسط الكُويري" يقول س.س (معدّ محتوى مثلي 29 عاماً).
وبالحديث عن المساحات، فترى س.م (مثلية 25 عاماً) أن المساحات كافية ومتوفرة، وبات هناك حفلات خاصة ومغلقة تجمع أفراد الوسط الكويري، بالإضافة إلى المساحات المفتوحة كباب شرقي، أو بعض الشوارع في المدن الأخرى، كما ساهمت الحداثة برأيها إيجاباً في تقريب الناس وخلق مساحة آمنة عن طريق السوشال ميديا وتطبيقات المواعدة.
الأمر الذي يخالف فيه (م.ع) الفكرة القائلة بأن الحداثة أثرت إيجاباً، لاعتقاده أنها أضاءت بشكل زائد على مجتمع الميم والكُويريين/ات أمام أشخاص غير جاهزين/ات للفهم أو التقبل، حتى صار أي شخص يبدي سلوكاً أو مظهراً "أنثوياً" يوصف بالـ"مشكوك بأمره"، وقد زاد من حالة الهلع عند الكُويريين بشأن التعبيرات الجندرية التي يبدونها، بينما يرى أن تطبيقات المواعدة باتت مكاناً لممارسة العنصرية والتنمر والإقصاء ويقول: "جل ما تراه على حسابات الأشخاص في تطبيقات المواعدة عبارات مثل [السمين لايقرب]، أو [النحيف أو العضل فقط]، أو [الأنثوي لا يجرب يبعت]، وغيرها من عبارات الوصم والإقصاء، حتى باتت بيئة خصبة لممارسة الازدواجية الشخصية".
برأي (ع.ح) ازدواجية الشخصية نابعة إما من عقد نقص، إذ يعتقد الأفراد أن بإمكانهم/ن التعرف على أشخاص أدنى منهم/ن في مستوى اجتماعي على تطبيقات المواعدة ذات الحسابات الوهمية، أو أن السبب لتقمصهم/ن شخصية أخرى على هذه التطبيقات هو التعارف بشكل مجهول أو بدافع الفضول، "فالتطبيقات هي وسيلة وليس سبباً، فمن يمارس الازدواجية قد يمارسها في أي مكان".
اتضح من تجارب الأفراد المشاركين والمشاركات وجود تمايزات وتنوع في وجهات النظر نحو الجنسانية، لكنها تأثرت حكماً بالحداثة والثورة، والحراك الكُويري في لبنان، وخصوصاً ضمن بيئة الناشطين/ات الكُويريين/ات، التي باتت تُطلق حملات توعية حول الهوية الجندرية وكسر الصور النمطية على منصات عدة مثل LGBT بالعربي.
*هذا التقرير لا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر الكاتب، وإنما يعبر عن وجهة نظر أفراد من الوسط الكُويري (اعتمد على مقابلة عينة عشوائية من الأفراد قد لا تكون شمولية لجميع أفراد الوسط).
هذا التقرير لا يعبر عن وجهة نظر روزنة، أشرفت على إنجاز المادة لينا الشواف، في إطار برنامج تدريب يضم صحافيات وصحافيين من سوريا من تنظيم منصة "أوان" وبدعم من منظمة "دعم الإعلام الدولي International Media Support".