وحيدون مع إعاقتهم.. قصص من ليلة الزلزال


محمود أبو راس

ما زالت جراح زلزال 6 شباط/ فبراير تتفاعل، وما زالت قصص المأساة كثيرة، وتحتاج أن نرويها، برغم أن زلزالاً آخر حدث بعد أسبوعين من الأول، موقعاً عدداً من الضحايا والخسائر المادية، وكأن الأرض ضاقت بأهلها.

"يا أرض الله أثبتي.. يا أرض الله احفظينا"، بهذه الكلمات حاول خالد أن يواسي نفسه، لحظة وقوع الزلزال في منطقة جنديرس، في ريف حلب الشمالي، خالد رجل في الستين من عمره فاقد للبصر، يعيش مع عائلة ابنه المكونة من خمسة أفراد.

في اللحظات الأولى لزلزال 6 شباط، خرج الجميع وتركوه وحيداً، غير قادر على السير وسط العتمة واهتزاز الأرض وتساقط أساس المنزل، لم يسعفهم الوقت القصير على إخراجه، ولم تنجح محاولاته في الهرب، فلم يجد أمامه سوى الانتظار والدعاء. 

"يا أرض الله أثبتي.. يا أرض الله احفظينا"

"لم أعش في حياتي مثل هذا الرعب والخوف، كنت أجلس واضعاً يدي فوق رأسي بدون وعي أو شعور، وكانت تتساقط مزهريات الورود والأطباق والكؤوس من الفيترينا بالقرب مني، حاولت الصراخ للوهلة الأولى، لكن صوت الأرض وصراخ الأطفال والنساء في الحيّ كان يطغى على صوتي".

حين هدأت الأرض وتوقف اهتزازها، بدأ خالد يلامس الأشياء التي سقطت حوله، فاصطدمت يده بزجاج إحدى المزهريات، حتى سالت دماؤه.

حاول الخروج من المنزل معتمداً على يديه، "كنت خائفاً من الاستناد إلى الجدران، خشيت أن تسقط على رأسي، كنت ألمسها بتأنٍ، إلى أن وصلت إلى باب الشقة مستعيناً بما تبقى من ذاكرتي التي تهاوت أمام كبر سني وشدّة خوفي، لكن إرادتي بالبقاء على قيد الحياة كانت أقوى".

حتى الآن، تجاوز عدد وفيات زلزال شرق المتوسط، الذي هز جنوب تركيا وشمال سوريا 46 ألفاً، إلى عشرات آلاف المصابين. وفي جميع أنحاء سوريا، بلغ عدد وفيات نحو 6000، فيما ذكرت الأمم المتحدة أن أكثر من 8 ملايين شخص تضرروا بسبب كارثة الزلزال في سوريا.

وبذلك يمكن تخيّل حال ذوي الإعاقة وسط كارثة طبيعية تفوق العقل وتتجاوز التوقعات، فخالد الذي وصل إلى الشارع أخيراً بأعجوبة متحدياً ذاته وإعاقته، يصف شعوره قائلاً،  "كأنها القيامة، الجميع كان يريد النجاة بروحه". وبرغم أنه لم يكن قادراً على رؤية شيء بعينيه، إلا أن الأصوات كانت كافية لترسم له صورة كاملة عن الرعب، وحتى الآن يرفض خالد النوم تحت سقف منزله الذي لم ينهَر بفعل الزلزال.

لم ينتهِ الرعب

لم يكن الوضع مختلفاً بالنسبة إلى زينب، الشابة العشرينية التي تعاني من شلل في أطرافها السفلية، وتعيش في الطبقة الثانية ضمن بناء مكون من ثلاث طبقات في مدينة جندريريس.  

استطاعت زينب النجاة من الزلزال الذي ضرب المنطقة، لكن الرعب ما زال يكبّلها وما زالت تعاني من مشكلات في النوم.

استيقظت زينب من نومها على اهتزاز سريرها، سمعت صراخ والدتها طالبةً من إخوتها الصغار النزول نحو بهو البناء ظناً منها أن ما يحدث ناتج عن قصف جوي أو مدفعي، فيما هي لم تكن قادرة على الحراك بسبب الشلل.


مع الاهتزاز الثاني، نزل أفراد العائلة دون وعي نحو البهو، تاركين زينب في غرفتها وحيدة.

بلغة كردية مطعّمة ببعض العربية، قالت زينب: "لم أعتقد بأنني سأنجو، كنت أتخيل مشاهد الدمار التي كنا نراها في أفلام الكرتون، وأصوات الأشباح المخيفة، وصراخ الناس، كان كل شيء مخيفاً لدرجةٍ لا يمكن وصفها، انهار سقف المطبخ وبدأ الظلام يخيم على كل شيء، واقتحم الغبار عيني وأنفي، حتى ظننت أنني سأختنق، صرخت بأعلى صوتي، حتى شعرت بأن حنجرتي ستخرج من جسدي، لكن لا مجيب، الجميع ذهب وبقيت وحيدة".

أمضت زينب 10 ساعات تحت الأنقاض حتى وصل والدها إليها مع فرق الإنقاذ وتمكنوا من إخراجها دون أن تصاب بأي أضرار جسدية، لكنها لم تنجُ من الكوابيس التي ترافقها طوال الليل، تحدثنا والدتها عن ليل ابنتها قائلةً: "في مركز الإيواء حيث نجلس لا يوجد إضاءة ليلاً، اشترى والدها ضوءاً صغيراً نستعمله ليلاً، لكن عند انتهاء شحنه، لا نستطيع النوم، وإذا غفونا نصحو على صراخ زينب".

مات تحت الأنقاض

أما خليل الشاب الثلاثيني، صاحب القلب الطيب، والابتسامة العريضة كما وصفه أخوه، كان يعاني من شلل نصفي ناتج عن ضمور دماغي منذ الولادة، لم يحالفه القدر في النجاة من هذه الكارثة، إذ تأخر وصول فرق الدفاع المدني إليه، فاختنق تحت سقف المنزل المنهار.

يتحدث رواد، أخ خليل الأكبر عما حدث ليلة الزلزال: "بيتي في الطبقة ذاتها حيث  يعيش خليل مع والدتي، عندما بدأ الزلزال خرجنا مسرعين نحو الشارع، وكانت تتساقط الحجارة علينا.

أمسكت بطفلتي ونزلت مسرعاً، تبعتني والدتي وزوجتي، وعندما قررت العودة لحمل خليل وإخراجه، كان البناء قد انهار ولم أعد أرى منزلنا فلقد بدا و كأنه علبة كرتون داسها فيل، انعدمت الرؤية كلياً حاصرني الخوف، هل أبقى بالقرب من عائلتي أم أخاطر بنفسي لإخراج خليل، بتّ عاجزاً عن فعل أي شيء، أصرخ في الطريق للمساعدة، لكن الجميع في حالة خوف لا أحد يجيب الآخر، فقدت وعي من كثرة الصراخ، حتى جهجهت الثواني الأولى من الضوء وبدأنا العمل على البحث في الركام وإزالة الأنقاض، ومع ساعات المساء تمكنا من الوصول إلى خليل، وقد فارق الحياة".

وصلت فرق الدفاع إلى خليل لكن الحياة غادرته، وما زالت زينب تصارع الكوابيس ليلاً، أما خالد فكان الزلزال أقسى ما مر عليه.

لحظات قاسية عاشها ذوو الإعاقة خلال زلزال السادس من شباط ولا شك في أنهم عاشوها مرة أخرى في الزلزال الثاني وإن بدرجات أقل. واجه كثر منهم هذه الكارثة بالوحدة والخوف، فمنهم من يعاني من صعوبات في الحركة أو من عجز عن اتخاذ القرار الصائب في هذه اللحظة أو فهم ما يحدث، بسبب الإعاقات العقلية.