صخب الحياة الليلية يعلو في الرقة من جديد

عبد الله الخلف

على أنغام الموسيقى الشعبية الصاخبة يرقص أبو حمّادي منتشياً في أحد النوادي الليلية بمدينة الرقة، يمازح الفتيات اللواتي يعملن هناك، ثم يطلب من المطرب الاقتراب ليحيي الحاضرين بمبلغ مالي.

هذه الأجواء التي تجعل أبو حمّادي "45 سنة" في قمة سعادته، افتقدها لسنوات بعد إغلاق النوادي الليلية، عقب سيطرة الفصائل الإسلامية على الرقة عام 2013.

يقول الرجل لـ روزنة إن الحياة "اسودّت" في نظره عندما أُغلقت الملاهي الليلية، وهو المعتاد على السهر فيها منذ أزيد من عشرين عاماً، "مرّت علينا خمس سنوات مثل الجحيم، حُرمنا من الخمر والسهر، وحتى السجائر مُنعت، لا أدري كيف استطعت العيش طيلة تلك الأعوام، أما اليوم فقد عادت الأجواء الجميلة وانتهى ذلك الكابوس".

وعلى طاولة أخرى في النادي يجلس بشار "25 سنة" برفقة صديقٍ له، هذا الشاب عاش فترة مراهقته في ظل حكم داعش للرقة، كانت النساء وقتها لا يرتدين إلا النقاب والعباءات السود، أما الآن يستطيع رؤية فتيات بملابس "مثيرة" في المقصف حسب وصفه.

"كان عمي يحدثني عن الأجواء في النوادي الليلية وكم كنت متشوقاً لكي أعيشها واليوم تحقق ذلك أخيراً، نأتي إلى هنا أنا وصديقي لشرب الكحول والاستمتاع برؤية الفتيات الجميلات والأغاني".

"مرّت علينا خمس سنوات مثل الجحيم، حُرمنا من الخمر والسهر، وحتى السجائر مُنعت، لا أدري كيف استطعت العيش طيلة تلك الأعوام"

تنافس "التحيات"

لا تحتاج السهرة في المقاصف للكثير من المال، حجز الطاولة مع مشروب كحولي وبعض المقبلات والأطعمة الخفيفة، تكلّف حوالي 25 ألف ليرة سورية.

لكن الأرباح الأكبر التي يجنيها ملّاك المقاصف الليلية تأتي من "التحيات"، حيث يقوم  رواد المكان أثناء السهرة، بالتحية بمبالغ مرتفعة يرمونها فوق الفتيات، أحدهم يحيي بـ 500 ألف ليرة سورية، وآخر يحيي بمليون ليرة! يبدو الأمر كأنه تنافس فيما بينهم على من يحيي بمبلغ أكبر.

حسين أحد رواد المكان، قال لـ روزنة إن الذين يقومون بالتحية بمبالغ كبيرة يفعلون ذلك للاعتزاز بكرمهم وثرائهم أمام الفتيات والآخرين، دون أن يترددوا كثيراً باعتبار أنهم تحت تأثير المشروبات الكحولية، "أنا لا أفعل ذلك بالطبع، آتي لهنا لأسهر وأستمتع فقط، من يفعلون ذلك هم تجار وأغنياء لا يكترثون لصرف الأموال".

يوجد في الرقة حالياً ناديين ليلين اثنين فقط، مقارنةً بأكثر من 15 مقصفاً ليلياً قبل عام 2011، كانت تقع معظمها على أطراف قرية السحل بريف الرقة الغربي، ولكنها اليوم أصبحت مجرد ذكرى من الماضي بسبب ظروف الحرب.

"الرجال الذين يقومون بالتحية بمبالغ كبيرة يفعلون ذلك للاعتزاز بكرمهم وثرائهم أمام الفتيات والآخرين"

تضييق على عمل النوادي الليلية

بدأت النوادي الليلية بالعودة للرقة في عام 2018 بعد سيطرة قوات سوريا الديمقراطية بنحو عام، وفي مطلع شهر آب من عام 2020 صدر قرار عن لجنة المرأة بمجلس الرقة المدني أدى للتضييق على عمل النوادي الليلية.

اللجنة قررت منع عمل النساء كـ "مضيفات" في الملاهي الليلية منعاً باتاً، محذرةً أصحاب تلك الملاهي من المسائلة، المتمثلة بـ غرامة مالية تصل لـ 500 ألف ليرة سورية وإغلاق النادي.

بيع المشروبات الكحولية يعد ممنوعاً في المنشآت السياحية بحسب مكتب السياحة التابع للمجلس المدني في الرقة.

و يدفع هذا المنع بأصحاب هذه المحال إلى اللجوء لدفع المال لأشخاص ذوي نفوذ ليؤمنوا لهم الحماية من دوريات الأمن الداخلي وفي بعض الأحيان تتم رشوتهم بالمشروبات الكحولية، واستصدار رخصة مطعم أو مقهى من مكاتب السياحة والثقافة والبلدية.

ولكن رغم ذلك لا تسلم تلك النوادي من الحملات الأمنية التي تستهدفها بين الحين والآخر، حيث تداهم دوريات تابعة لقوى الأمن الداخلي المقاصف لإغلاقها واعتقال العاملين والموجودين فيها.

روزنة قابلت صاحب أحد المقصفين في الرقة، يقول إن عناصر الأمن يقومون باعتقال الزبائن والمطرب والفتيات ويلقون بهم في سيارات البيك آب ليأخذوهم لقسم الأمن، "فجأةً ودون سابق إنذار تطوّق دورية تابعة للأمن النادي، ويدخلون إلينا عناصر مسلحين مقنعين يصرخون على الناس لتنتهي السهرة!".

ويلفت إلى أن الأمن يطلق سراح الزبائن والمطرب فوراً بعد أخذهم للقسم، أما الفتيات فـ يتم ترحيلهن إلى المناطق التي ينحدرن منها، "الفتيات اللواتي يعملن في النادي من مناطق مختلفة تخضع لسيطرة النظام، نحن نقوم بإدخالهن للمنطقة بشكل قانوني، ورغم ذلك يقومون بترحيلهن، مما يعقّد عملنا أكثر ويعيق عودة الفتيات".

ويوضح صاحب النادي بأنهم ملتزمون بضوابط في عملهم، مثل منع دخول الشبان دون سن الثامنة عشرة، وعدم السماح بوجود الأسلحة والمخدرات في النادي. 

"لدينا معاييرنا الخاصة التي نلتزم بها لضمان الأمان هنا، بالإضافة لذلك فإن جميع أشكال الدعارة أو تسهيلها ممنوعة، والفتاة التي تتجه لذلك نقوم بفصلها من العمل، على مجلس الرقة المدني أن يكون مرن معنا أكثر ولا يقطع أرزاق العاملين في هذه النوادي".

من جانبه يبيّن براء العبّادي مدير مكتب السياحة بمجلس الرقة المدني أنهم يحاولون حظر النوادي الليلية بسبب الخطر الذي تشكله وفق تعبيره. 

يقول: "الوضع ليس مستقر والسلاح اليوم منتشر وقد تحدث جرائم، ذهبنا بجولة ميدانية لأحد النوادي قبل فترة وشاهدنا كيف أن أحد الأشخاص الثملين صوّب سلاحه لرأس إحدى الفتيات هناك ولولا التدخل في اللحظات الأخيرة لقتلها".

ويكشف العبّادي أيضاً عن مناقشات حالية في المجلس المدني لترخيص النوادي الليلية خلال الفترة القريبة، ولكن وفق ضوابط ومعايير معينة تحفظ الأمن فيها وتحافظ على كرامة النساء العاملات في هذه الأماكن حسب قوله.

"المضيفات".. العمود الفقري للنوادي الليلية

في النادي الليلي الذي زرناه توجد خمس نساء يعملن كـ مضيفات، يتقاضين أجراً يتراوح بين 40 - 50 ألف ليرة سورية لليلة الواحدة، فيما يتكفل صاحب النادي بإقامتهن في الطابق العلوي من ذات المكان، ليبدأ عملهن عند الساعة الحادية عشرة ليلاً، وينتهي في الخامسة صباحاً.

سالي "31 سنة"، كانت تتجول خلال عملها بين طاولات الزبائن، تمازحهم وترقص معهم، توضح لـ روزنة بأنها لم تكن تقدم خدمات أخرى، في إشارة لعدم ممارسة فعل "الدعارة" أو الترويج لها في النادي.

يدعي بعض الزبائن بأن هناك فتيات في النادي يعملن بالدعارة خارج أوقات الدوام، إلا أن سالي تنفي هذا الأمر، "لو كنت أريد العمل في الدعارة لبقيت في منطقتي وعملت هناك، ولكني جئت هنا للعمل لكي أجمع المال وأعود لقريتي وأبني منزل أعيش فيه مع أطفالي".

"الأمن وضعوا المسدس في رأسي وأخذوني من النادي واعتقلوني لمدة ليلة، وبعد ذلك قاموا بـ ترحيلي من مناطق الإدارة الذاتية"، رُحلت سالي من قبل قوى الأمن الداخلي بالرقة إلى مناطق نفوذ النظام التي تنحدر منها.

ورغم إمضاء سالي على تعهد لقوى الأمن بعدم العودة للعمل في المقاصف بالرقة، إلا أنها ترغب بالعودة مجدداً للعمل، "إذا لم أعد للعمل سوف أموت من الجوع أنا وأطفالي! في النادي أتقاضى أجراً جيداً يكفيني للعيش أنا وأولادي".

ولعل أكثر ما يثير مخاوف المضيفات هي المضايقات التي يتعرضن لها من قبل القوى الأمنية في الرقة، والتي تقوم بتوقيفهن كل فترة وترحيلهن من المنطقة تنفيذاً لقرار صادر عن مجلس الرقة المدني بمنع عملهن في كافة المنشآت السياحية.

أم يزن "35 سنة" تعمل أيضاً كـ مضيفة في النادي الليلي، هي أرملة وأم لخمسة أولاد، عملت في المقاصف منذ 12 سنة في محافظات سورية مختلفة، تقول إنها ليست سعيدة بعملها، ولكن لا يوجد عمل آخر يؤمن لها دخلاً "محترماً" غير هذا حسب تعبيرها.

 "لست سعيدة بارتداء الملابس المثيرة والتعرض للتحرش من زبائن النادي طوال الليل، ولكن أحاول التأقلم مع الوضع، إذا رفضت هذا الواقع سيموت أولادي من الجوع".

تشير أم يزن إلى أن الكثير من الزبائن يطلبون منها الذهاب معهم لبيوتهم ليمارسوا معها الجنس، ولكنها ترفض ذلك "حتى لو دفعوا ثقلها ذهباً" وفق تعبيرها، مضيفةً "عملنا يختلف عن الدعارة، هذا مجال وذاك مجال آخر، نحن نقدم الضحكة والمزحة واللمسة فقط، ولا شيء آخر".

داعش.. كابوس يؤرق حياة الليل

فاضل الذي يغني في الحفلات والنوادي الليلية منذ أكثر من عشرين عاماً يحكي لـ روزنة كيف كان يذهب ويعود وهو آمن في الماضي، ولكنه اليوم عندما يخرج ليلاً إلى عمله يضع يده على قلبه خوفاً من أن تتحقق التهديدات التي تلقاها من تنظيم داعش.

غادر المدينة في عام 2014 بسبب ملاحقته من قبل عناصر التنظيم باعتباره مطرب شعبي "مفسد في الأرض" وفق التهمة التي كانت موجهة إليه، قرر فاضل الرحيل باتجاه تركيا عام 2014، عمل هناك لسبعة أعوام وعاد السنة الماضية لمسقط رأسه الرقة.

وبعد عودته لمزاولة مهنته الغناء بالملاهي الليلية بالرقة تلقى فاضل رسائل تهديد جديدة من أرقام مجهولة عبر تطبيق واتساب، "أرسلوا لي صور ومقاطع فيديو فيها رؤوس مقطوعة ومشاهد لإعدامات ودماء وقالوا لي (حفلتك) قريبة أيها الزنديق!".

الكثير من أصدقائه المطربين لم يعودوا بسبب الخوف من وجود خلايا تابعة لداعش قد تقتلهم بأي لحظة! بالإضافة للفتيات اللواتي كن يعملن في النوادي الليلية ولم يعدن أيضاً.

الخوف من داعش يمنع كذلك بعض زبائن النوادي الليلية من السهر فيها، مثل عبود الذي قرر العزوف عن الذهاب إليها بعد أنباء فرار سجناء ينتمون لداعش في الحسكة، ما أثار قلقه من حدوث تفجيرات وهجمات محتملة على هذه الأماكن.

ويقول عبود: "نحن نذهب للمقاصف الليلية لنسهر ونستمتع ونشرب بدون أن نؤذي أحد، ولكن رغم ذلك هناك من يريدون قتلنا، شاهدت تعليقات لأشخاص متطرفين عبر فيسبوك يطالبون التنظيم بتفجير المقاصف في الرقة"!.

قرر عبود الاكتفاء بالسهر والشرب في بيته معلناً عدم رغبته بالعودة إلى  السهر في المقصف طالما الوضع غير آمن.

رسم: فارس قره بيت