من أرض معارك إلى حقول موت.. عن تحديات إزالة مخلفات الحرب في سوريا

إيمان حمراوي

في مساء رمضاني هادئ، بينما كانت الشمس تستعد للمغيب في التاسع من آذار الفائت، وفي تمام الساعة السادسة وأربعين دقيقة، انفجر لغم داخل أحد المنازل في قرية العنكاوي شمال غربي حماة، فحصد أرواحاً بريئة وأصاب أجساداً غضة ما زالت تتعلم المشي بين بقايا الحرب.

كانت زينة (27 عاماً) تحضّر الفطور والحلويات استعداداً للإفطار، فيما كانت الفتيات ياسمين وفريال (9 - 14 عاماً) يتحركن داخل البيت في أجواء رمضانية دافئة. لم يعلمن أن لحظات الفرح القليلة تلك ستتحول إلى مأساة ستخلّف وجعاً طويل الأمد، ينقل مراسل روزنة.

في الخارج، كان محمد، ذو التسعة سنوات، يلهو قرب المنزل. عيناه وقعتا على شيء غريب من مخلفات الحرب قرب السياج، اقترب منه دون أن يدرك أنه يلامس الموت. التقطه، ودخل به إلى المنزل ظناً منه أنه لعبة أو قطعة حديد كباقي مخلفات الحرب التي اعتاد الأطفال رؤيتها.

عندما دخل محمد إلى البيت، أمسك باللغم بيده الصغيرة، ارتبكت البنات، وصرخن بفزع. زينة أسرعت إليه، انتزعت اللغم من يده محاولة إنقاذ الجميع، وركضت به إلى الخارج. لكنها ما إن أمسكت به لتلقيه، حتى دوى الانفجار.

انفجر اللغم في لحظة، وسقطت زينة أرضاً  وفارقت الحياة وهي في طريقها إلى المستشفى. بجانبها كانت فريال التي قضت على الفور. ياسمين، الطفلة الأصغر، أُصيبت بشظايا. أما محمد، تناثرت الشظايا في وجهه، وبقي أسابيع طويلة في المستشفى يصارع الألم والكوابيس.

قرية العنكاوي، حيث وقعت الحادثة، كانت لسنوات خط تماس بين قوات النظام السابق وفصائل المعارضة، ومليئة بالألغام من مخلفات الحرب التي لا تزال تقتل وتشوّه حتى الآن.

 وعلى الرغم من مرور سنوات على توقف القتال، لا تزال الألغام تُهدّد أرواح المدنيين، خصوصاً الأطفال الذين لا يميزون بين لعبة وعبوة قاتلة.

أكثر من نصف سكان سوريا يواجهون مخاطر مميتة يومياً، والأطفال هم الأكثر عرضة للخطر، حيث أن واحداً من كل ثلاثة ضحايا للذخائر المتفجرة هو طفل، وفق تقرير لـ"اللجنة الدولية للصليب الأحمر" أمس الخميس.

وفي عام 2020 أودت الألغام الأرضية والذخائر غير المتفجرة بحياة أكثر من 1260 طفلاً، وخلال أسبوع واحد فقط في شهر كانون الأول الماضي، أودت بحياة 11 طفلاً في حوادث بحلب ودرعا وحماة، وفق بيان لمنظمة "يونيسف" أواخر العام الفائت.

ويُحتفى باليوم الدولي للتوعية بالألغام وبتقديم المساعدة في الأعمال المتعلقة بإزالتها في الرابع من نيسان من كل عام، وفي 2025 يحتفى بهذا اليوم تحت شعار "من هنا يبدأ بناء المستقبل المأمون"، وفق "الأمم المتحدة".

سوريا الأكثر تضرراً في العالم

في مناطق متفرقة من سوريا، الألغام والذخائر المتفجرة تستمر في سرقة الأرواح، من درعا إلى حماة، ومن إدلب إلى ريف دمشق.  قصص الضحايا تتكرر، والوجع واحد، أطفال فقدوا أطرافهم، نساء شوهتهن الشظايا، ورجال تركوا حقولهم ليبدؤوا رحلة طويلة مع العلاج أو العجز.

ووفق تقرير لـ "اللجنة الدولية للصليب الأحمر" أمس الخميس، لا تزال الألغام الأرضية والمخلفات المتفجرة بعد 14 عاماً من الحرب تشكل تهديداً قاتلاً للمدنيين، وبخاصة مع عودة السوريين بعد سنوات من النزوح ومع تعرض مجتمعات جديدة للتلوث نتيجة تصاعد أعمال العنف.

وتعتبر سوريا الدولة الأكثر تضرراً في العالم من حيث ضحايا الذخائر غير المنفجرة خلال السنوات الأربع الماضية، حيث خلفت الحرب إرثاً مدمراً من الألغام والذخائر غير المنفجرة في جميع أنحاء البلاد أثر على معظم المناطق المأهولة بالسكان،  وفق "الأمم المتحدة".

الضحايا بالأرقام.. والأسباب

شهدت سوريا ارتفاعاً مأساوياً في عدد الضحايا بسبب الذخائر المتفجرة، منذ الثامن من كانون الأول الفائت وحتى الـ 25 من آذار الفائت، إذ أبلغ خلال تلك الفترة عن 748 إصابة، مقارنة بـ 912 إصابة سجلت خلال عام 2024، بحسب تقرير لـ"اللجنة الدولية للصليب الأحمر".

الألغام والذخائر أودت بحياة أطفال أثناء اللعب، ونساء خلال جمع الحطب والخردة، ومزارعين في حقولهم في مناطق سورية مختلف بحماة وإدلب ودير الزور وغيرها.

وأصيب اليوم شاب جراء انفجار لغم أرضي في بادية مدينة صبيخان شرقي دير الزور، وأمس الخميس، قتل ثلاثة أشخاص من عائلة واحدة، وأصيب آخرون، بانفجار لغم من مخلفات الحرب في منطقة بادية الشولا جنوب غربي دير الزور، وفق شبكة "فرات بوست" المحلية.

وأواخر شهر كانون الثاني الفائت، قتل أربعة أشخاص وأصيب أربعة آخرون بينهم طفلان وشابة‏جراء انفجار لغم أرضي في منطقة تل سلمى ‏بريف حماة الشرقي.

 ويُعزى هذا التصاعد في أعداد ضحايا مخلفات الحرب إلى عدة عوامل، وفق "الصليب الأحمر" أبرزها انتشار المركبات العسكرية المهجورة ومخزونات الذخائر غير المؤمنة، إضافة إلى الضربات التي استهدفت مواقع تخزين السلاح.

أيضاً، ساهمت عودة المدنيين إلى مناطقهم بعد سنوات من النزوح، دون علمهم بمستوى الخطر، في ارتفاع عدد الإصابات. وتفاقمت المخاطر بفعل الأزمة الاقتصادية، التي دفعت البعض لجمع الخردة من مناطق ملوثة، فضلاً عن محاولات إزالة المتفجرات بشكل فردي، في ظل غياب برامج وطنية لمكافحة الألغام.

الدفاع المدني السوري والتحديات

يعتبر "الدفاع المدني السوري" (الخوذ البيضاء) أحد الجهات العاملة على إزالة مخلفات الحرب والتوعية من مخاطرها في سوريا.

المكتب الإعلامي للدفاع المدني السوري كشف لروزنة أن فرقه نفذت خلال الفترة الممتدة من 26 تشرين الثاني 2024 حتى 1 نيسان 2025، أكثر من 1451 عملية إزالة لمخلفات الحرب، تخلصت خلالها من 2059 ذخيرة غير منفجرة.

 كما تم تنفيذ 690 جلسة توعية حول مخاطر الألغام والذخائر، استفاد منها 14,843 شخصاً إلى جانب تحديد 453 منطقة ملوثة بشكل مؤكد و141 حقل ألغام.

لمخلفات الحرب نوعان أساسيان، الذخائر غير المنفجرة ومخلفات القصف، والألغام. النوع الأول يختص به الدفاع المدني مثل القنابل العنقودية والصواريخ غير المنفجرة، أما الألغام يعمل فقط على مسحها وتحديدها والتوعية حولها.

يقول المكتب الإعلامي للدفاع المدني:"التعامل مع الذخائر شيء مختلف عن التعامل مع الألغام والمخلفات الارتجالية".

هذه الأرقام تعكس الاستجابة الفعلية للحوادث من قبل فرق الدفاع المدني، لا الحصيلة الشاملة لعدد الحوادث الناتجة عن مخلفات الحرب، وأكد المكتب الإعلامي أن كل استجابة يتم توثيقها كحادثة مستقلة.

تحديات جسيمة

ويواجه الدفاع المدني تحديات كبيرة في عمله، أبرزها الانتشار الواسع والمتنوع لمخلفات الحرب في سوريا نتيجة 14 عاماً من النزاع واستخدام مختلف أنواع الأسلحة، بما فيها القنابل العنقودية المحرمة دولياً. ووفق "الأمم المتحدة" نحو 40 بالمئة من هذه القنابل لا تنفجر فوراً، مما يحولها إلى قنابل موقوتة تهدد المدنيين لاحقاً.

ومن التحديات التي تواجه فرق الدفاع المدني، محدودية الموارد والتجهيزات، إذ يوضح المكتب الإعلامي، أن فرق الدفاع المدني كانت تعمل في محافظتين فقط ما بين 2020 و2024، أما اليوم بعد سقوط النظام توزعت تلك الفرق على 11 محافظة.

يضم الدفاع المدني حالياً 6 فرق إزالة و6 فرق توعية ومسح، ويخطط للوصول مستقبلاً إلى 11 فريق إزالة، مع برامج تدريب نوعية لرفع الجاهزية والاستجابة. 

ويشدد الدفاع المدني على ضرورة تنسيق الجهود بين المؤسسات الحكومية والمنظمات المحلية والدولية لتفادي التضارب وضمان الاستجابة المنهجية.

وأوضح المكتب الإعلامي لـ"الخوذ البيضاء"أن أبرز الصعوبات التي تواجههم حالياً ولا سيما بعد سقوط النظام السابق، هو عودة السوريين لمناطقهم بشكل غير حذر، ما سبب بفقدان العديد لأرواحهم، موضحاً أنّ فرق الدفاع المدني تعمل وفق خطط منهجية مدروسة، تضمن حماية الأرواح، وليس بإمكانهم التعامل وفق الاستجابة الطارئة.

وتابع: "بشكل يومي ومنذ سنوات يحذّر الدفاع المدني الأهالي من مخلفات الحرب وآثارها، لكن لا سلطة لديه لمنع الأهالي من دخول مناطقهم، ولا سيما مناطق خطوط التماس التي تعتبر شديدة الخطورة (...) الرغبة الشديدة بالعودة بعد سنوات من التهجير كان ثمنه غال جديد بفقدان بعض الأرواح، والملام الأول والأخير وهو النظام السوري السابق".

وتُصنّف الأراضي السورية إلى ثلاث درجات من التلوث، أخطرها المناطق التي كانت خطوط تماس، مثل سهل الغاب، الكبينة، ريفي إدلب وحماة، ومناطق في دير الزور وحمص والغوطة الشرقية، حيث تنتشر العبوات الناسفة والأسلحة المرتجلة والألغام، بحسب "الدفاع المدني".

وأشار المكتب الإعلامي إلى أن "الأراضي الأقل تلوثاً تلك التي تعرضت للقصف والتي كان فيها معارك وهو ما ينطبق على جزء كبير من الأراضي السورية، أما المنطقة الثالثة فهي التي لم تشهد مخلفات حرب، إذ يمكن لمخلفات الحرب أن تنتقل بوسائل مختلفة مثل السيول "لا يوجد منطقة سورية آمنة من مخلفات الحرب".

ووفق "منظمة الهجرة الدولية" إن نحو 750 ألف نازح داخلي عادوا إلى مناطقهم الأصلية في سوريا منذ تشرين الثاني عام 2024، بينهم 28 بالمئة يقيمون في مبان متضررة أو غير مكتملة، بينما يخطط مليون نازح في المخيمات ومواقع النزوح في شمال غرب سوريا للعودة إلى مناطقهم الأصلية خلال العام المقبل، منهم 600 ألف في الأشهر الستة المقبلة، وفق استطلاع أجرته "الأمم المتحدة".

وعاد أكثر من 270 ألف لاجئ سوري بعد سقوط النظام السابق، وفق تقرير أممي منتصف شهر شباط الفائت.

"الاستجابة الطارئة" تحديات مشابهة

ويعمل فريق "الاستجابة الطارئة" على إزالة مخلفات الحرب، إضافة إلى تقديم جلسات توعية حول مخاطر الألغام وكيفية التعامل معها، وتدريب المتطوعين على تقنيات إزالة المخلفات الحربية بأمان.​

وأشار الفريق إلى أن النظام السابق زرع ألغاماً معقدة ومختلفة الأشكال والأحجام، مما يجعل التعامل معها صعباً ويعرض حياة أعضاء الفريق للخطر. ورغم تعرض بعض الأعضاء لإصابات، إلا أن الفريق يواصل عمله دون توقف لإزالة هذه المخاطر، وفق منشور عبر "فيسبوك".

وأشار المكتب الإعلامي للدفاع المدني خلال حديثه مع روزنة إلى أنّ فرق الهندسة التابعة للحكومة السورية تعمل أيضاً على إزالة مخلفات الحرب.

وحذّر من المبادرات الفردية التي تنتهي غالباً بكوارث إنسانية، معتبراً أن العمل في مخلفات الحرب يحتاج فريقاً ومعدات خاصة وتدريبات مهنية.

وساعد متطوعون في محاولة تطهير الأراضي ليتمكن السوريون من العودة إليها بأمان، لكنهم فقدوا حياتهم أيضاً بسبب هذه المخاطر. 

ومنذ سقوط النظام كان فهد الفجر، ابن قرية التح في ريف إدلب الجنوبي، ينشر صوراً بانتظام عبر فيسبوك حول عمله في إزالة الألغام، وفي 14 شباط الماضي كتب منشوراً عن وفاة أحد زملائه قائلاً: "نحن فريق الهندسة، كل يوم نفقد شخصاً بعدما تحررت سوريا. في النهاية، نحن جميعاً ميتون، ما يهم هو تنظيف البلاد".

وفي 21 من شباط قتل خلال انفجار لغم خلال عمله في إزالة الألغام في قرية الفطيرة بجبل الزاوية.

مخاطر أخرى.. منها تفاقم الأمن الغذائي

انتشار الألغام والذخائر المتفجرة، لا تنحصر مخاطرها فقط على التهديد الجسدي المباشر بفقدان الحياة أو أحد الأطراف.

وبسبب انتشار التلوث بالأسلحة، يواجه السوريون في العديد من المناطق صعوبات في الوصول إلى الرعاية الصحية والتعليم والاحتياجات الأساسية بسبب الخوف من التنقل في المناطق المتأثرة، ما عدا خوف المزارعين من زراعة أراضيهم أو تربية الماشية، وهو ما يؤدي إلى تفاقم انعدام الأمن الغذائي، وفق تقرير "الصليب الأحمر".

ووفق تقرير لـ"الأمم المتحدة" مطلع العام الجاري، يحتاج نحو 16.7 مليون شخص، ما يزيد عن ثلثي سكان البلاد، إلى أحد أشكال المساعدة الإنسانية، وهناك سبعة ملايين نازح داخلياَ، فيما تستمر معدلات سوء التغذية المزمن في الارتفاع.

إزالة الألغام تمكن الناس من استعادة حياتهم

في عام 2024 قامت فرق إزالة الذخائر التابعة للجنة الدولية للصليب الأحمر بمسح مليون و815 ألف متراً مربعاً في حلب وريف دمشق، وتطهير 737 ألف متراً مربعاً وتدمير 559 جسماً متفجراً بأمان، وهو ما ساعد أكثر من 93 ألف شخص، بينهم عائدون، في الوصول إلى منازلهم وسبل عيشهم، وفق "الصليب الأحمر".

رئيس برنامج دائرة الأمم المتحدة للإجراءات المتعلقة بالألغام "أونماس" في سوريا، جوزيف مكارتان، أكد أن الإجراءات المتعلقة بالألغام تمكّن السوريين من استعادة حياتهم.

ولفت المسؤول الأممي إلى توسّع عمليات المنظمات الإنسانية بهذا المجال، بتمويل جديد يهدف إلى تحديد المناطق الأكثر تلوثاً. وشدد على أهمية التوعية لتجنب وقوع المدنيين ضحايا لمخلفات الحرب. وفق تقرير لـ"الأمم المتحدة" في السادس من آذار الفائت.

ما هي مخلفات الحرب؟

بحسب "اللجنة الدولية للصليب الأحمر" تتعرض أعداد هائلة من المدنيين كل سنة للقتل أو الإصابة بسبب "مخلفات الحرب القابلة للانفجار". وهذه المخلفات هي الأسلحة غير المنفجرة التي تتخلف بعد نـزاع مسلح، مثل القذائف والقنابل اليدوية والقنابل.

واعتمد المجتمع الدولي عام 2003 معاهدة للحد من المعاناة الإنسانية الناجمة عن مخلفات الحرب القابلة للانفجار، ودعا كل طرف من أطراف النزاع لإزالة مخلفات الحرب القابلة للانفجار من الأراضي الخاضعة لسيطرته بعد توقف الأعمال العدائية.

في شتى أنحاء العالم هناك الملايين من مخلفات الحرب القابلة للانفجار في نحو 80 بلداً. بعض البلدان بقيت تواجه تلك المشكلة منذ عقود مثل بولندا التي أزالت نحو 100 مليون جسم متفجر متبقية من الحربين العالميتين.

وفي اليوم الدولي للتوعية بخطر الألغام، حذر الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، من أن أكثر من 100 مليون شخص حول العالم يواجهون خطر الألغام الأرضية والمتفجرات من مخلفات الحرب والأجهزة المتفجرة يدوية الصنع، من أفغانستان إلى ميانمار ومن السودان إلى أوكرانيا وسوريا، والأرض الفلسطينية المحتلة وغيرها.